عنوان الفتوى : حكم الانصرف من عرفة قبل غروب الشمس
سمعت من أحد علمائنا في مصر أن الذي يفتي بالنزول يوم عرفات بعد صلاة العصر، معللا ذلك بالزحام، فهو مخطئ، ولا دليل عليه. فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وهل يجب على الحاج أن يظل طيلة نهار عرفة متلبسا بالوقوف أم إنه يجوز له النزول ما دام قد قضى ساعة عليه. علما بأن هذا الشيخ قد حمل الحديث الوارد على الضرورة فقط وإلا أصبح الناس يتهاونون في كل شيء.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن وقت الوقوف بعرفة يبدأ عند الجمهور من زوال الشمس يوم التاسع، وقال الحنابلة إنه يبدأ من طلوع الفجر يوم التاسع، ويمتد وقت الوقوف إلى طلوع فجر يوم النحر، فمن وقف في هذا الوقت ولو زمنا يسيرا، فقد وقف بعرفة وأتى بالركن، ومن وقف نهارا فقط، فالواجب عليه أن يمد الوقوف إلى الغروب، فإن دفع قبل الغروب وجب عليه أن يرجع ليقف بعد الغروب، فإن لم يقف بعد الغروب شيئا، فقد ترك واجبا من واجبات النسك، يلزمه لتركه دم، وحجه صحيح؛ لكونه أتى بالركن وهو الوقوف، والمصحح عند الشافعية أنه لا شيء على من دفع قبل الغروب، وأن مد الوقوف إلى الغروب سنة لا واجب، وهذا القول قوي في الدليل.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله مبينا الخلاف في المسألة، وما لأهل العلم في وقت الوقوف من الأقوال ما عبارته: وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ، فَوُقُوفُهُ تَامٌّ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، فَوُقُوفُهُ تَامٌّ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الدَّمِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: حَجُّهُ صَحِيحٌ. مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ، فَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ. قِيلَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِنَانًا، وَقِيلَ: نَدْبًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَأَنَّمَا قِبلَ الزَّوَالُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. انتهى. ورجح الشيخ- رحمه الله-أن مد الوقوف إلى الغروب مستحب لا واجب فقال: وأما المقتصر على النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، فَلِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَبَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُرَتِّبًا لَهُ بِالْفَاءِ عَلَى وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ نَهَارًا يَتِمُّ حَجُّهُ بِذَلِكَ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ التَّمَامِ ظَاهِرٌ، فِي عَدَمِ لُزُومِ الْجَبْرِ بِالدَّمِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ صَرِيحٌ فِي مُعَارَضَةِ ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَدَمُ لُزُومِ الدَّمِ لِلْمُقْتَصِرِ عَلَى النَّهَارِ، هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِدَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، كما ترى. انتهى.
والحاصل أن الأحوط ألا يدفع من بعرفة إلا بعد الغروب، وأن من دفع قبل الغروب، فالقول بعدم لزوم الدم له، وأن ما فعله جائز، قول قوي كما رأيت، وأما الحديث الذي ذكرت أن الشيخ المذكور حمله على حال الضرورة، فلا ندري ما مرادك به، وقد عرفت دليل الشافعية في المسألة وهو حديث عروة بن مضرس آنف الذكر.
والله أعلم.