عنوان الفتوى : الاشتهار والاستفاضة دليلان قويان على المِلك
رجل يمتلك بئر ماء لمدة 27عاماً ولم يطالبه أحد بالشراكة خلال هذه السنوات وتفاجأ الرجل صاحب البئر هذا بأن رجلا من المنطقة يطالبه بالشراكة بعد هذه المدة وعلماً أن هذا الرجل موجود طول هذه السنوات في البلد وذلك بادعائه أنه له قطعة أرض صغيرة بقرب البئر لها شرب ماء من زمن أجداده وعنده شهود من أقاربه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذا الشخص الحائز لهذه البئر، والذي تجول يده عليها طيلة الفترة المذكورة من دون ظهور أي مدع مع انعدام ما يمنع من إقامة الدعوى لديه من القرائن ما يقضي بملكيته لهذه البئر، ويدفع عنه كل الدعاوى المستجدة، ومن هذه القرائن الاشتهار والاستفاضة بملكيته للبئر، وهما قرينتان قويتان على الملك، ومنها الأصل الأصيل: أن من كان ثابت اليد على شيء، فالأصل عدم دخوله إليه بوجه غصب أو نحوه، وعدم خروجه عنه إلا بما يقتضي التمليك للغير، ومنها قاعدة: أن الأصل بقاء ما كان عليه ما لم يقم دليل على خلافه، ومنها وجود ملكية البئر في يده.
فمن قام في مقابل هذه الأمور، وادعى ما يخالفها مع سكوته طيلة الفترة لغير مانع، فإنه لا تسمع له دعوى لدلالة القرائن السابقة على أن يد هذا الحائز يد محقة.
قال ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية وهو يقسم أيدي الحائزين إلى يد مبطلة ويد محقة ويد تحتمل أن تكون محقة وأن تكون مبطلة. قال رحمه الله: الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة، فلا تسمح الدعوى عليها، كمن تُشَاهَد في يده دار يتصرف بها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب مع عدم سطوته وشوكته، فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق، وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة، ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك، فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة، هذا مذهب أهل المدينة مالك وأصحابه، وهو الصواب.
قالوا: إذا رأينا رجلاً حائزاً لدار متصرفاً فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء والإجارة والعمارة، وهو ينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه، ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقاً، ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك، مما تتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عرياً عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك، فدعواه غير مسموعة أصلاً، فضلاً عن يمينه.
وتبقى الدار في يد حائزها، لأن كل دعوى ينفيها العُرف وتكذبها العادة، فإنها مرفوضة غير مسموعة، قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [لأعراف:199].
وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك يؤخذ بهذا في هذا الموضوع، وليس ذلك خلاف العادات، فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
أما عن السؤال الثاني، وهو رفض المدعى عليه شهادة الشهود، فالجواب: أن المدعى عليه من حقه أن يقدح في شهادة الشاهد، وأن يبين للقاضي ما يراه قادحاً فيها، لأن النظر في رفض الشهادة أو قبولها من حق القاضي فقط.
وبالنسبة للسؤال الثالث والأخير، وهو قول السائل: هل توجد أدلة من أحاديث نبوية حول تعيين مدة لا تقيد الدعوى على الحائز بعدها؟ فالجواب: أنه ورد في ذلك حديث ضعفه أهل العلم بالحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من حاز شيئاً عشر سنين، فهو له" أخرجه أبو داود في المراسيل.
وعلى كل حال، فهذه المسألة لا يمكن أن يبت فيها إلا القاضي، ونحن إنما قصدنا إعطاء السائل صورة لما سأل عنه حسبما ذكر في سؤاله.
والله أعلم.