أرشيف المقالات

فصل الخطاب بين التغني بالقرآن وتلاوته على المقامات

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
فصل الخطاب
بين التغني بالقرآن، وتلاوته على المقامات
 
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد:
أولًا: التغني كما جاء في لسان العرب: هو كلُّ مَنْ رَفَع صوتَه ووَالاهُ، فصَوْتُه عند العرب غِناءٌ.
 
والتغني بالقرآن اصطلاحًا هو الجهر (رفع الصوت به) مع تحسينه بخشوع وترقيق وتحزن، وتحسينه فطرة لا صنعة، من غير تكلف ولا مبالغة.
 
فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به))، وأذنه من الإذن، وفي رواية: ((كإذنه))، وفيه أمر وحث على تحسين الصوت بالتلاوة.
 
ثانيًا: المقامات
المقامات هي جمع لألحان الناس في غنائهم، كما قيل من أهل هذا الفن، فهو علم سابق على نزول القرآن والقراءة به، وقد حصر أهل ذلك الفن هذه الألحان بأوزان معينة، وسموها مقامات، وجمعوها على ستة أوزان هي:
(البيات، والرَّسْت، والنهاوند، والسيكا، والصبا، والحجاز)، وكما هو واضح ما هي إلا مقامات أعجمية، عدا مقام الحجاز فهو من أصل عربي.
 
أما أن البعض يغير اسم هذه المقامات الموسيقية إلى المقامات الصوتية، فهذا قلب للمسميات عن حقائقها لتستساغ، ويسهل تناولها، وما هي إلا سنة إبليسية، كما قال بعض العلماء.
 
والكثير من المسميات تسمى بغير اسمها استخفافًا بالعقول للجنوح بها عن المعقول، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ ‌عَدُوًّا ‌شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].
 
وكما تعلمنا أن كل حرف من حروف القرآن له صفة، والصفة هي الكيفية التي تُعطى للحرف عند النطق به؛ بحيث تميزه عن غيره، وأشهر الأقوال عند علماء التجويد أنها سبع عشرة صفة لازمة؛ لذلك لا بد من إعطاء كل حرف حقه ومستحقه مخرجًا وصفة.
 
وقراءة القرآن على تلكم المقامات قد تخرج عن قواعد علم التجويد، وتكون ملتزمة للوزن الملازم للمقامات، فيخرج عن الهيئة المعتبرة، وقد يقع القارئ في المحظور أو المحرم إذا تعمد ذلك.
 
فمثلًا قد يطرأ على اللفظ خطأ فيخل بمبناه إخلالًا ظاهرًا، يشترك في معرفته علماء القراءة وعامة الناس، سواء أدى ذلك إلى فساد المعنى أم لم يؤدِّ؛ كتبديل حركة بأخرى، أو جعل الضمة واوًا، والفتحة ألفًا، أو ترك المدود الطبيعية، أو قصرها عن الحدود الواجبة واللازمة، فتذهب ذات الحرف، أو ترك الإظهار في مواضع الإظهار، وترك الإدغام في مواضع الإدغام، وتفخيم ما يجب ترقيقه، وترقيق ما يجب تفخيمه، ونحو ذلك...
 
وأحيانًا يلحنون بالحرف، ويلوون ألسنتهم مطابقًا للوزن، فتضيع حينئذٍ الكلمة والمعنى.
 
فالمقامات صناعة وتمرين وأوزان، وقد كره السلف القراءة على تلكم المقامات، وعابوها وذموها، ومعلوم أن السلف كانوا يقرؤون القرآن بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بشجا تارة، وبشوق تارة، وبطرب تارة، وهكذا، وهذا أمر مركوز في الطباع، أما بالتصنع والغلو والتنطع، فهذا هو المنهي عنه.
 
قال ابن تيمية رحمه الله: الألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها هي التي تقتضي قصر الحرف الممدود، ومد الحرف المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطربة، فإن حصل مع ذلك تغيير نظام القرآن، وجعل الحركات حروفًا فهو حرام.
 
ولا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يقرن به من الألحان ما يقرن بالغناء من الآلات وغيره.
 
وقال القرطبي رحمه الله: ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفًا، فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه، ومن حرمته ألَّا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق.
 
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن يُنزه عن هذا ويجل، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب".
 
وقال السيوطي رحمه الله: قراءة القرآن بالألحان والأصوات الحسنة والترجيع إن لم تخرجه عن هيئته المعتبرة فهو سنة حسنة، وإن أخرجته فحرام فاحش.
 
وهنا أقول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تقع في المحظور: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
 
أما شيخنا الجليل الدكتور أيمن سويدان حفظه الله أفادنا بحسن تبيانه قائلًا: قراءة القرآن الكريم بالمقامات الموسيقية بدعة لا أصل لها في الدين، وهو علم فارسي الأصل يستعمل في الغناء والإنشاد، وله موازين تتعارض تمامًا مع موازين الأداء القرآني، وحكم قراءة القرآن الكريم بالمقامات الموسيقية دائر بين الكراهة إن حصلت المحافظة على أحكام القراءة، ولا يكاد يوجد هذا وبين الحرمة إن حصل الإخلال بها، وهو الغالب على القارئين بالمقامات الموسيقية.
 
إذن التغني بالقرآن كما تقدم ينبغي أن يكون على السليقة والفطرة لا تعليمًا وتدريبًا على قوانين النغم.
 
فالقرآن الكريم لم ينزل لتطريب السامعين؛ ولكن أنزل القرآن للسمع والإنصات والتدبر، والعمل بمقتضاه.
 
وهنا أختم كلامي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامات الساعة الصغرى، فقد جاء في صحيح الجامع: من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أخاف عليكم ستًّا: إمارة السفهاء، وسفك الدم، وبيع الحكم، وقطيعة الرحم، ونَشْوًا يتخذون القرآن مزامير، وكثرة الشرط).
 
[نَشْوًا يتخذون القرآن مزامير؛ أي: يتغنون به، ويتشدقون، ويأتون به بنغمات مطربة؛ لأن غرضهم تلذذ الأسماع بتلك الألحان والأوضاع].
 
وفتوى الإمام مالك جاءت بمنع القراءة بالألحان وقوانين النغم بما يخرج عن حدود التلاوة وصحة الأداء، ويتعارض مع وقار القرآن، وهذا لا خلاف في تحريمه.
 
اعلم أخي الكريم يرحمك الله أن تلاوة القرآن على المقامات ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح رضي الله عنهم.
 
والأمر هنا تعبدي محض، فلا بُدَّ من دليل على الإباحة وإلا فالأصل المنع؛ لأن الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل، ولا دليل على الجواز.
 
فلا أجَلَّ ولا أسْمَى ولا أعظم من قارئ يرتل القرآن محتذيًا بنبيه، متبعًا لسنته، معظمًا لكلام ربه، مترنمًا بآياته.
 
فعندما سئلت أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها عن صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا قرأَ يُقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً؛ (بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَحْمَنِ الرَحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِينِ).
 
فلم يكن عليه الصلاة والسلام يصل كثيرًا بين الآيات؛ بل كان يقطعها، ويقف على كل آية مبينًا للسامعين رؤوس الآيات ومعانيها.
 
فكانت قراءته صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفًا حرفًا، وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون في طبقات صوته ومداته المعاني مفسرة، وتقشعر جلودهم من جمال أدائه، وارتكاز همزاته وسكتاته، (فيستشعرون خطاب الله لهم).
 
ومن معالم قراءته أيضًا صلى الله عليه وسلم، ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كانَت قراءةُ النَّبِيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلم باللَّيلِ يرفعُ طَورًا ويخفضُ طَورًا)
؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يراوح بين طبقات صوته، فيرفعها ويخفضها بما يتناسب مع ذلك، فيطرد السآمة عن السامع، ويعين على التدبر، ويراعي حال من حوله.
 
أسأل الله العظيم أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وأن نتلوه كما أُنزل على سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
 
المصادر:
لسان العرب/ صحيح الجامع/ مجموع الفتاوى/ الجامع لأحكام القرآن/ الإتقان في علوم القرآن/ تفسير القرآن العظيم/ سنن الدارمي/ صحيح أبي داود.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن