عنوان الفتوى : هل يشهد القرآن يوم القيامة على مخالفيه بمخالفته ، كما يشهد لأصحابه ويشفع لهم ؟
هناك أحاديث عدة تقول بأن القرآن سيشفع لقارئه ، فهل هناك أحاديث تذكر أن القرآن سيكون شاهدا على بعض الناس ؟
الحمد لله
أولا :
ثبت في السنة الصحيحة أن القرآن يشفع يوم القيامة لأصحابه ؛ فروى مسلم (804) عن أبي
أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (اقْرَءُوا
الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ ) .
وروى الإمام أحمد (6589) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الصِّيَامُ
وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَقُولُ الصِّيَامُ :
أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ
. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ : مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ .
قَالَ : فَيُشَفَّعَانِ ) . صححه الألباني في "صحيح الجامع" (7329) .
راجع جواب السؤال رقم : (14035)
.
ثانيا :
كما أن القرآن يشفع لأصحابه يوم القيامة ، فهو أيضا يشهد على مخالفيه بهجره وتضييع
فرائضه وتعدي حدوده .
فروى مسلم (223) عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم : ( ... وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فإما أن يكون لك ، وذلك فيما إذا توصلت به إلى الله ، وقمت بواجب هذا القرآن
العظيم : من التصديق بالأخبار ، وامتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، وتعظيم هذا
القرآن الكريم واحترامه ، ففي هذه الحال يكون حجة لك .
أما إن كان الأمر بالعكس : أهنت القرآن ، وهجرته لفظاً ومعنى وعملاً ، ولم تقم
بواجبه ؛ فإنه يكن عليك شاهداً يوم القيامة " .
انتهى من "شرح رياض الصالحين" (ص30) .
وروى ابن حبان في صحيحه (124) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
الْقُرْآن شَافِع مُشَفع وَمَاحِل مُصَدَّقٌ مَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ قَادَهُ إِلَى
الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ) .
صححه الألباني في "الصحيحة" (2019) ، وأعله الدارقطني في " العلل "(5/102) بالوقف
على ابن مسعود .
قال ابن حبان عقب هذا الحديث :
" هذا خبر يوهم لفظه من جهل صناعة العلم أن القرآن مجعول مربوب وليس كذلك ؛ فإن
العرب في لغتها تطلق اسم الشيء على سببه كما تطلق اسم السبب على الشيء ، فلما كان
العمل بالقرآن قاد صاحبه إلى الجنة أطلق اسم ذلك الشيء الذي هو العمل بالقرآن على
سببه الذي هو القرآن ، لا أن القرآن يكون مخلوقا " .
وقوله : ( ماحل مصدق ) أي : خَصْمٌ مجادل مصدَّق .
"النهاية" (4 /636)
وقال المناوي رحمه الله :
" قال في الزاهر : معناه من شهد عليه القرآن بالتقصير والتضييع فهو في النار .
ويقال : لا تجعل القرآن ماحلا ، أي شاهدا عليه " .
انتهى من "فيض القدير" (4 /699) .
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (30667) ، وابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"
(ص258) ، وابن الضريس في " فضائل القرآن" (89) من طريق مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ ، سَمِعْت
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقول : ( يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ في أَمْرِهِ
فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ حَمَّلْته إيَّايَ فَشَرُّ
حَامِلٍ تَعَدَّى حُدُودِي وَضَيَّعَ فَرَائِضِي ، وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي وَتَرَكَ
طَاعَتِي ، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ :
فَشَأْنُك بِهِ ، فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى
صَخْرَةٍ فِي النَّارِ ، وَيُؤْتَى بِرَجُلٍ صَالِحٍ قَدْ كَانَ حَمَلَهُ وَحَفِظَ
أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا دُونَهُ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ حَمَّلْته إيَّايَ
فَخَيْرُ حَامِلٍ ، حَفِظَ حُدُودِي وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي
وَاتَّبَعَ طَاعَتِي ، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ لَهُ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ :
شَأْنُك بِهِ ، فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يُلْبِسَهُ حُلَّةَ
الإِسْتَبْرَقِ وَيَعْقِدَ عَلَيْهِ تَاجَ الْمُلْكِ ) .
وهذا إسناد ضعيف ؛ لأن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ، لكن قال البخاري رحمه الله في
كتاب "خلق أفعال العباد" (474) :
" وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يمثل
القرآن يوم القيامة رجلا فيشفع لصاحبه ) .
حدثنيه زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق وحدثني عمرو بن
شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
بهذا . قال أبو عبد الله - يعني البخاري - : " وهو اكتسابه وفعله " انتهى .
فثبت سماع ابن إسحاق للحديث من عمرو بن شعيب ، فثبت الحديث بذلك .
وقوله ( يُمَثَّلُ
الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ
فَخَالَفَ في أَمْرِهِ فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ ) المقصود : تمثل له تلاوته
للقرآن .
راجع جواب السؤال رقم : (91306)
.
وروى ابن أبي شيبة (30676) ،
والدارمي (3325) عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : ( يَجِيءُ
الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ فَيَكُونُ قَائِدًا إِلَى
الْجَنَّةِ ، أو يَشْهَدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ سَائِقًا لَهُ إِلَى النَّارِ )
والشعبي لم يسمع من ابن مسعود ، كما في " المراسيل " لابن أبي حاتم (ص 25) .
ولكن له شاهد بلفظ : ( إن هذا القرآن شافع مشفع ، وماحل مصدق ، من جعله أمامه قاده
إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ) .
وقد ورد ذلك من عدة طرق عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ، فانظر : "فضائل القرآن"
(20) للفريابي ، "فضائل القرآن" لأبي عبيد (44) ، "فضائل القرآن" (94) لابن الضريس
، "الزهد" للإمام أحمد (ص155) ، "شعب الإيمان" للبيهقي (2010) ، "المعجم الكبير"
للطبراني (8655) .
فتبين بما تقدم أن القرآن كما يشهد لأصحابه يوم القيامة ، يشهد على مخالفيه .
والله تعالى أعلم .