عنوان الفتوى : معنى الإسلام العام والخاص وحكم أهل الفترة
أريد أن أعرف: من كانوا على شريعة سيدنا عيسى قبل أن يعلموا ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. هل يطلق عليهم مسلمون أم لا ؟ كالذين ذكروا في قوله تعالى: ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) .. قال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيسى بن مريم، فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا. وهل هؤلاء ممن نزلت فيهم الآية: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 62 ) .. وهل كان سلمان الفارسي الذي تربى على أيدي الرهبان نصرانيا مسلما أي متبعا لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، مثل ورقة بن نوفل أم كان نصرانيا كافرا يتبع الديانة المحرفة ؟ وإن إفترضنا وجود شخص الآن متبعا لشريعة سيدنا عيسى دون تحريف أو تبديل، يؤمن بالله وحده لا شريك له، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، والقدر. ولكنه لم يسمع أبدا عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام دون تفريط. هل يعتبر مسلما أم كافرا ؟ أرجو الإجابة على
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأكثر الأسئلة السابقة للأخ السائل تدور في فلك مسائل التكفير والوسوسة فيها، فنكرر له النصح بألا يتعمق في ذلك، وبأن يهتم بدراسة القرآن والسنة، وأن يكون أكبر همه إصلاح نفسه ومن حوله بقدر طاقته، دون أن يشغل نفسه بالحكم عليهم.
وأما سؤاله هذا فجوابه يتضح ببيان أمرين:
ـ الأول: أن الإسلام له معنى عام، ومعنى خاص، فالعام: هو الاستسلام لله باتباع رسله في كل حين. والخاص: عَلَم على رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته. وهو بمعناه العام دين جميع الأنبياء والمرسلين. وأما معناه الخاص فمتعلق بأمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كل من كان حيا بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم. فلا يسع أحدا من الأنبياء ـ فضلا عن غيرهم ـ أن يتدين بغير شريعته بعد مبعثه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني. رواه أحمد والدارمي، وحسنه الألباني. ولفظ رواية الدارمي: والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم. وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران]. وراجع في ذلك الفتويين: 92992، 118819.
قال الشيخ الفوزان في (الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد): الاستسلام لله يتضمن عبادته وحده، وأن يطاع وحده، وذلك بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الإسلام بأن يستقبل بيت المقدس، ثم أمر بعد ذلك باستقبال الكعبة؛ كان كل من الفعلين حين أمر به داخلاً في الإسلام .. فكذلك الرسل دينهم واحد، وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك؛ فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحداً؛ كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد؛ كما مثلنا باستقبال بيت المقدس أولاً ثم استقبال الكعبة ثانيا في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم؛ فقد يشرع الله في وقت أمرًا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا لحكمة، فالعمل بالمنسوخ قبل نسخه طاعة لله، وبعد النسخ يجب العمل بالناسخ، فمن تمسك بالمنسوخ وترك الناسخ؛ ليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ. اهـ.
ولمزيد الفائدة عن ذلك يمكن الاطلاع على الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 813، 36905، 39118، 97132.
والأمر الثاني: أن من لم تبلغه الدعوة ولم يسمع بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو معذور على عدم الإيمان به واتباعه، فإن كان موحدا كان من أهل النجاة ومن أهل الجنة، ولا حرج في أن يوصف بالإسلام بمعناه العام. وأما إن كان مشركا فقد اختلف أهل العلم في حكمه في الآخرة، وأرجح الأقوال أنه يمتحن في عرصات القيامة، كسائر أهل الفترة.
قال ابن حزم في (الإحكام في أصول الأحكام): إنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به على من سمع بأمره صلى الله عليه وسلم، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال، والمشرق، وجزائر البحور، والمغرب، وأغفال الأرض من أهل الشرك، فسمع بذكره صلى الله عليه وسلم، ففرض عليه البحث عن حاله وأعلامه، والإيمان به، أما من لم يبلغه ذكره صلى الله عليه وسلم، فإن كان موحدا فهو مؤمن على الفطرة الأولى، صحيح الإيمان، لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. اهـ.
ومن هؤلاء الموحدين الذين ماتوا في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: زيد بن عمرو بن نفيل، فقد كان حنيفا على ملة إبراهيم، وهو من أهل الجنة، وراجع الفتوى رقم: 108641. وقصته ثابتة في صحيح البخاري عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله! قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنى أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا وأنى أستطيع فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 59186، 115179، 68324، 59524.
وراجع في حكم أهل الفترة الفتويين: 49293، 3191. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 92992.
وراجع في تفسير قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا..) الفتويين: 28378، 191337.
وفي تفسير قوله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {البقرة:62} الفتوى رقم: 24670.
والله أعلم.