عنوان الفتوى : مسألة المسلم إذا قتل بدار الحرب من ظنه حربيا فبان مسلما
ذكرتم في الفتوى رقم: 2324282 والتي هي بعنوان: (طاعة الأمير في غير معصية الله، وهل يأثم إن أخطأ وهل يتابع في خطئه) وذكرتم فيها مشكورين أن الأمير لا يتابع في المعصية، ولكن لم يتم ذكر ما إذا لو تابع الجند أميرهم في خطئه اعتقادا منهم أنه مصيب. فما عليهم حيث إن الدليل لم يذكر ذلك، وإنما تطرق إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم فقط دفع الدية عن خالد، ولم يذكر أنه دفع الدية عن الجنود الآخرين الذين نفذوا أمره في قتل أسراهم، وكذلك لم يذكر الدليل شيئا عن صيام شهرين متتابعين لخالد. فهل في مثل هذه الحالة نستنتج :(أنه فقط الأمير هو الذي يتحمل خطأه، وأنه تدفع ديته من بيت المال، ولا يصوم شهرين متتابعين، وأن الجند المنفذين لأمره (الخطأ) ليس عليهم شيء في ذلك لا صيام ولا دية؛ لأن الدية التي دفعت تم تحميلها على الأمير ودفعت من بيت المال) وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالدية أو الكفارة إذا وجبتا على الأمير، فإنه يجب مثل ذلك على من فعل مثل فعله من جنوده. واعتقاد الجنود أن أميرهم مصيب، يرفع عنهم الإثم والعقوبة بمتابعتهم له وامتثالهم لأمره، ولكنه لا يعفيهم مما يجب عليهم من الدية أو الكفارة حال وجوبها.
وأما بخصوص قصة خالد- رضي الله عنه- مع بني جذيمة، فقد اختلف أهل العلم في إيجاب الدية، والكفارة عليه في ذلك، فمنهم من لم يوجب عليه شيئا منهما، ومنهم من أوجبهما، ومنهم من أوجب الكفارة دون الدية.
قال ابن حزم في (المحلى): خالد لم يقتل بني جذيمة إلا متأولا أنهم كفار، ولم يعرف أن قولهم: صبأنا، صبأنا - إسلام صحيح، وكذلك أسامة بلا شك، وحسبك بمراجعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقوله: "إنما قالها من خوف السلاح" وهو والله الثقة الصادق الذي ثبت أنه لم يقل إلا ما في نفسه. وكذلك السرية التي أسرعت بالقتل في خثعم وهم معتصمون بالسجود، وإذ هم متأولون فهم قاتلو خطأ بلا شك، فسقط القود. ثم نظرنا فيهم فوجدناهم كلهم في دار الحرب في قوم عدو لنا، فسقطت الدية بنص القرآن، ولم يبق إلا الكفارة، فلا بد من أحد أمرين ضرورة: إما أنه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بها فسكت الراوي عن ذلك. وإما أن الآية التي فيها: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة} [النساء: 92] لم تكن نزلت بعد، فلا شيء عليهم إلا الاستغفار والدعاء إلى الله عز وجل فقط. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (جامع المسائل): ما حرمه الله تعالى من البغي والقتل وغير ذلك، إذا فعله الرجل متأولا مجتهدا معتقدا أنه ليس بحرام لم يكن بذلك كافرا ولا فاسقا، بل ولا قود في ذلك ولا دية ولا كفارة ... وقد ثبت في الصحيح أن أسامة بن زيد قتل رجلا من الكفار بعد ما قال "لا إله إلا الله " ... ومع هذا فلم يحكم عليه بقود ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولا اعتقد جواز قتله بهذا. اهـ.
وذكر نحو ذلك في منهاج السنة ثم قال: فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قوما مسلمين لا يحل قتلهم، ومع هذا فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ضمن المقتول بقود ولا دية ولا كفارة، لأن القاتل كان متأولا. وهذا قول أكثر العلماء، كالشافعي، وأحمد وغيرهما. ومن الناس من يقول: بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا، فثبتت في حقهم العصمة المؤثمة دون المضمنة، بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم، كما يقوله أبو حنيفة وبعض المالكية. اهـ.
ونقل ذلك ابن مفلح في (الفروع) وقال: قد ذكر شيخنا بعد ذلك قصة خالد كما تقدم, ولم يتكلم على ما فيها من التضمين المخالف عنده لقصة أسامة, بل قال: إنه وقع منه كما وقع من أسامة, فدل أنهما سواء. فإما أن يقال: ظاهر قصة أسامة لا تضمين, وقصة خالد ترغيباً في الإسلام, أن التضمين ليس في المسند ولا الكتب الستة. أو يقال: قصة خالد فيها التضمين، وفي قصة أسامة مسكوت عنه, ومثل أسامة يعلمه كما يعلم الكفارة, ولم يطالب إما لعسرته, أو لأن المستحق بيت المال. اهـ.
وقال في موضع آخر: ومن أسلم قبل أسره لخوف أو غيره فلا تخيير; لأنه لا يد عليه, وظاهر كلامهم أنه كمسلم أصلي في قود ودية, لكن لا قود مع شبهة التأويل, وفي الدية الخلاف كباغ, أو أنها مسألة من قتل بدار حرب من ظنه حربيا فبان مسلما, وهذا أولى, لأنه تبين أنه غير مأمور به, بخلاف قتل الباغي, فعلى هذا تجب الكفارة "وش" اهـ. "وش" أي وفاقا للشافعي.
وقال الدكتور عبد العزيز الأحمدي في رسالته للدكتوراة (اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية): دل الحديث على أن المسلم القاتل في دار الحرب، لا قصاص عليه، ولا دية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على خالد رضي الله عنه لا قصاص ولا دية مع أنه قتلهم في دارهم. اهـ.
وعن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني دون الأمر بنصف العقل.
قال الخطابي في (معالم السنن): إنما أمر لهم بنصف العقل ولم يكمل لهم الدية بعد علمه بإسلامهم؛ لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره، فسقط حصة جنايته من الدية. اهـ.
وقال الجصاص في (أحكام القرآن): قال ابن عائشة: هو الرجل يسلم فيقيم معهم، فيغزون، فإن أصيب فلا دية له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "فقد برئت منه الذمة". وقوله "أنا بريء منه" يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم. ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول كان ذلك على أحد وجهين: إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام. أو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تبرع به، لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه. اهـ.
والله أعلم.