أبو بكر الصديق نشأته وإسلامه
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
في زمان اختفت فيه القدوة، وكادت أنظار الباحثين أن تكل وهي تبحث عمن يتخذ أسوة، وفي ظل إعلام ظالم مخادع يلمع لنا أصنافا من الفاسقين، وأطيافا من الراقصين والفنانين، ويحصر البطولة "أي بطولة" بين أقدام اللاعبين ليجعل قلوب المسلمين وأبناء المسلمين تتعلق بهذه الأطياف المغمورة والأنفس المقهورة، والأشكال المطمورة، فتشرئب أعناق الجيل الصاعد لتخلف هذه القدوات الفاشلة في تحقيق مثل هذه البطولات الزائفة التي عادت علينا بالتردي والتخلف، والضعف والوهن، وتسليط أعداء الأمة عليها كتسليط الأكلة على قصعتها، لأن الأمة صارت غثاء كغثاء السيل.
ولما كان للقدوة أثر كبير في حياة الناس كما قال الله لنبيه: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقوله: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي).
وقول الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .. ..
إن التشبه بالرجال فلاح رأيت بعد كل هذا أن يكون حديثنا اليوم عن قدوة وأي قدوة، وأسوة أي أسوة، ورجل ولكن ليس كأي رجل، في مثل هذا الشهر مات فوجدتها فرصة سانحة ومناسبة موافقة أن أحدثكم عنه. إننا نتحدث اليوم عن رجل عظيم، جليل القدر، رفيع المنزلة، كان اسمه عبد الله، وحقا كان عابدا لله، عَبَدَ الله حق عبادته، وجاهد فيه حق جهاده، وأنفق في سبيله نفسه ونفيسه، وغالي ملكه ورخيصه، آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، ونصره وعزره، ونافح عن الدين وآزره ، صاحبنا اليوم هو عبد الله بن عثمان بن عامر.
فهل عرفتموه؟ لا عجب ألا تعرفوه فلم يكن يوما ممثلا، ولا فنانا، ولا راقصا، ولا لاعبا حاشاه. لا عجب ألا تعرفوه فقد جهل فضله الكثيرون، وبخسه حقه الأكثرون، بل حتى الخطباء والوعاظ والكتاب كثيرا ما تجاهلوه. مشكلته أنه كان عظيما بجوار أكبر العظماء، وكبيرا بجوار أكبر الأكابر، ورؤفا رحيما لكنه بجوار أرأف إنسان وأرحمه، فطغت عظمة الأول وقدره ومنزلته على عظمة صاحبنا ومنزلته. عبد الله بن عثمان بن عامر، حبيب الله، وحبيب رسوله، وصاحبه وصديقه وصدِّيقُه ورفيقه..
سيد البشر بعد الأنبياء والمرسلين، ذو شيبة الإسلام، سيد كهول أهل الجنة، السابق بالخيرات، الأول دائما فلا يسبق أبدا. من لي بمثل سيرك المدلل ........
تمشي رويدا وتجي في الأول إنه أبو بكر الصديق: كان اسمه عبد الله، ولقبه عتيقا، ووصفه الصديق. أما عبد الله: فسماه أبوه حين ولد قبل عام الفيل بسنتين وستة أشهر، كان يصغر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاشها بعده، ومات في سنه، فكان عمره يوم مات ثلاثا وستين سنة.
كرسول الله صاحبه صلى الله عليه وسلم، الذي شابهه في كل شيء حتى في عمره. وأما عتيق: فلقب لقب به لعتاقة وجهه، أي صباحته وملاحته، فقد كان جميلا في خلقه كما كان جميلا في خلقه.
"قاله أحمد والليث وابن معين".
وقال الفضل بن دكين: لقدمه في الخير.
فعتيق يعني قديم..
وكان أبو بكر خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام. وقيل لعتاقة نسبه: أي لطهارته، إذ لم يكن في نسبه شيء يعاب. وأولى من ذلك كله أن نقول ما قاله الإمام النووي رحمه الله: ولقب – أبو بكر – عتيقا لعتقه من النار. فقد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أعتقه من النار، كما في مسند أبي يعلى، وابن سعد، والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله إني لفي بيتي ذات يوم، ورسول الله وأصحابه في الفناء والستر بيني وبينهم إذ أقبل أبو بكر رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر)، وإن اسمه الذي سماه به أهله عبد الله فغلب عليه اسم عتيق. وروى الترمذي والحاكم عنها أيضا: (أن أبا بكر دخل على رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار، فمن يومئذ سمي عتيقا). وعند البزار والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن الزبير "حفيد أبي بكر" قال: (كان اسم أبي بكر عبد الله فقال له رسول الله: أنت عتيق الله من النار فسمي عتيقا). وأما الصديق: فقد قال الإمام السيوطي: لقب كان يلقب به في الجاهلية، لما عرف عنه من الصدق.
وقيل لمبادرته لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به. قال ابن إسحاق عن الحسن وقتادة: وأول ما اشتهر به صبيحة الإسراء. فقد روى الحاكم بسند جيد عن عائشة قالت: "جاء المشركون إلى أبي بكر "يعني صبيحة ليلة الإسراء" فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس!! قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لقد صدق.
إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة.
قالت: فلذلك سمي الصديق".
قال السيوطي وإسناده جيد. وعن النزال بن سبرة قال: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر، قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، كان خليفة رسول الله، رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.
رواه الحاكم، قال السيوطي: إسناده جيد. فأما وصف جبريل لأبي بكر فأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن أبي وهب مولى أبي هريرة..
ورواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكان بذي طوى قال يا جبريل: إن قومي لا يصدقوني.
قال يصدقك أبو بكر وهو الصديق. وأما تسمية النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك ففي حديث جبل أحد: لما صعد عليه النبي ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: فاهتز الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسكن فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان). ولذلك كان عليٌ كثيرا ما يقول على المنبر: إن الله سمى أبا بكر على لسان نبيه صديقا.
وجاء عن أبي يحيى قال: لا أحصي كم سمعت علياً يقول على المنبر ..
وذكره". وأنا أقول إن رب العزة سبحانه وصف أبا بكر بهذا الوصف المبارك "الصديقية" كما في قوله سبحانه: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}(سورة الزمر: ).
فالصدق هو الإسلام، والذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله عنه. ولذلك أخرج الطبراني بسند جيد صحيح عن حكيم بن سعد قال: "سمعت عليا يقول ويحلف لأنزل الله اسم أبي بكر من السماء الصديق". نشأته: ولد الصديق بمكة، ونشأ فيها نشأة تشبه نشأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيانة والتعفف وجمع مكارم الأخلاق، نشأة طيبة طاهرة صان الله بها عرضه، وحفظ له بها مروءته، ورفع بها قدره، وأعلا بها منزلته. كانت نشأة صيانة ومروءة فما عبد صنما، ولا شرب خمرا، ولا قال شعرا..
بل كان عفيفا شريفا، متصفا بأفضل الصفات، جامعا لمكارم الأخلاق، حتى وصفه المشركون بما وصفت به خديجة رسول الله. قالت عائشة: والله ما قال أبو بكر شعرا قط في جاهلية ولا إسلام، ولقد ترك هو وعثمان الخمر في الجاهلية.
ابن عساكر بسند جيد. كان أبو بكر قد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقيل له في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ قال أعوذ بالله..
قيل له ولم؟ قال كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي.
فإن من شرب الخمر كان مضيعا في عرضه ومروءته. عاش أبو بكر في مكة، وكان لا يخرج منها إلا للتجارة، وكان ذا مال جزيل في قومه، ومروءة تامة، وإحسان وتفضل فيهم. قال الإمام النووي: كان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، ومحببا فيهم، وأعلم بمعالمهم، وهو أحدُ عشرةٍ من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام، فقد كان إليه أمر الديات والغرم، كما كانت السقاية والرفادة لنبي هاشم، والحجابة واللواء والندوة لنبي عبد الدار. إن من عجيب ما تقرأ وتسمع عن هذا الرجل الطيب المبارك، أنه بلغ من محاسن الأخلاق قمتها، ومن مكارم الفضائل منتهاها وبغيتها، حتى وصفه الجاهليون بما وصفت به خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال له ابن الدغنة: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتقري الضيف.
فلا غرو أن تأتلف روحه مع روح رسول الله؛ فإن الأرواح جنود مجندة، ومكارم الأخلاق تعدي، والطيور على أشكالها تقع. صادق أبو بكر رسولَ الله قبل الإسلام وكان يرى من دلائل نبوته، ويسمع أثاره قبل دعوته وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليه بما يلقاه من سلام الشجر والحجر عليه، فلما بعث رسول الله سبق أبو بكر إلى الإسلام ودخل فيه أكمل دخول دون تردد ولا تلعثم...
وقد روى ابن إسحاق "بسند ضعيف" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر، ما عَتَمَ عنه حين ذكرته، وما تردد فيه). وفي الحلية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كلمت في الإسلام أحدا إلا أبى علي وراجعني الكلام، إلا ابن أبي قحافة، فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه). أولهم إسلاما ذهب خلائق من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن أبا بكر كان أول الخلق إسلاما، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك. وقال قوم: بل أسلم قبله خديجة وعلي بن أبي طالب. وقيل: بل أسلم بعد آل بيت رسول الله وهم خمسة: خديجة، وعلي، وزيد بن ثابت، وزوجته بركة أم أيمن، وورقة بن نوفل. وأخرج الطبراني عن الشعبي قال: سألت ابن عباس: أي الناس كان أول إسلاما؟ قال: أبو بكر ألم تسمع إلى قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ..
..
فاذكر أخاك أبا بكر بما فــعلا خير البريــة أتقــاها وأعــدلها ..
..
إلا النبي وأوفــاها بمـــا حمـلا والثاني التالي المشهود مشهده ..
.
وأول الناس منهم صدق الرسلا وأعدل الأقوال في ذلك ما قاله أبو حنيفة رحمه الله: "أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان عليٌ"..
وقيل ومن الموالي زيد بن ثابت..
رضي الله عنهم أجمعين. خير المسلمين إسلاما وأياً ما كان الأمر فقد أجمعت الأمة على أنه كان خيرهم إسلاما، وأفضلهم إيمانا، رضي الله عنهم أجمعين. فعن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال لأبيه سعد: أكان أبو بكر الصديق أولكم إسلاما: قال: لا، ولكنه أسلم قبله أكثر من خمسه، ولكن كان خيرنا إسلاما.
(ابن عساكر بسند جيد) أخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب أنه سأل أباه: بم علا أبو بكر وسبق حتى لا يذكر أحد غير أبي بكر؟ قال: لأنه كان أفضلهم إسلاما من حين أسلم حتى لحق بربه. وعن فرات بن السائب قال: سألت ميمون بن مهران قلت: عليٌ أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟ قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده، ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما، من دونهما! كانا رأس الإسلام..
قلت: فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي: فقال: والله لقد أسلم أبو بكر بالنبي زمن بحيرا الراهب حين مر به واختلف فيما بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه وذلك كله قبل أن يولد علي.
"الحلية" وقد أجمع أهل السنة على أن أفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم سائر العشرة، ثم باقي أهل بدر، ثم باقي أهل أحد، ثم باقي أهل البيعة "بيعة الرضوان"، ثم باقي الصحابة، هكذا حكى الإجماع عليه أبو منصور البغدادي.
(تاريخ الخلفاء:34). روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس زمان رسول الله فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان.
زاد الطبراني: فيعلم بذلك النبي ولا ينكره. وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت. وفي البخاري عن محمد بن الحنفية: قال: قلت لأبي (علي بن أبي طالب): أي الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر..
قلت: ثم من؟ قال: عمر..
وخشيت أن يقول عثمان فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. وأخرج الإمام أحمد وغيره عن علي قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.