عنوان الفتوى : مذهب الإمام مالك في من قال لأخيه يا كافر
حكم من قال لأخيه: يا كافر، على مذهب الإمام مالك؟ وقد كفرت قبلُ كثيرا من العباد؛ لأنني أخاف إن لم أكفرهم أن أكفر أنا. فهل إذا فعلت هذا أكفر على مذهب الإمام مالك؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد
فمسألة التكفير مسألة خطيرة، وصاحبها على خطر إن لم يتب من اتهام غيره بالكفر بلا حجة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما أمرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه. رواه البخاري ومسلم.
ولا يكفر كفرا مخرجا من الملة من قال لأخيه يا كافر على مذهب الإمام مالك.
قال الباجي المالكي في المنتقى: قوله صلى الله عليه وسلم: { فقد باء بها أحدهما } قال عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى في المزنية: معناه إن كان المقول له كافرا فهو كما قال, وإن لم يكن المقول كذلك خيف على القائل أن يصير كذلك لقوله لأخيه كافر، يريد أنه يخاف عليه أن يكفره بحق مشروع، يكفر جاحده، فيصير بذلك كافرا. وهذا معنى ما رواه ابن حبيب، عن مطرف، عن مالك, وقد قيل: إن معنى قوله: { فقد باء بها أحدهما } يريد بوزر هذا القول عليه, وإن لم يكن كافرا، فوزر هذا القول على قائله أن أحدهما يكون كافرا بهذا القول, والله أعلم وأحكم . اهـ.
وقال ابن عبد البر المالكي في الاستذكار: قال أبو عمر: باء بها، أي احتمل وزرها. ومعناه أن الكافر إذا قيل له يا كافر فهو حامل وزر كفره، ولا حرج على قائل ذلك له، وكذلك القول للفاسق يا فاسق. وإذا قيل للمؤمن يا كافر فقد باء قائل ذلك بوزر الكلمة واحتمل إثما مبينا وبهتانا عظيما، إلا أنه لا يكفر بذلك؛ لأن الكفر لا يكون إلا بترك ما يكون به الإيمان. وفائدة هذا الحديث النهي عن تكفير المؤمن وتفسيقه؛ قال الله عز وجل: ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان. [ الحجرات 11 ]. فقال جماعة من المفسرين في هذه الآية: هو قول الرجل لأخيه يا كافر، يا فاسق. وممن قال بذلك عكرمة، والحسن، وقتادة. وهو معنى قول مجاهد؛ لأنه قال: هو الرجل يدعى بالكفر وهو مسلم. وقد فسر ابن حبيب هذا الباب عن مطرف، عن مالك تفسيرا حسنا لا تدفعه الأصول قال: إنما هو في من قاله على اعتقاد التكفير بالنية والبصيرة، وهم الخوارج. لا أراه أراد بذلك إلا الخوارج الذين يكفرون أهل الإيمان بالذنوب، ومن ذهب مذهبهم ورأى رأيهم، فأما من قاله على وجه استعظام ما يرتكب الرجل من المعصية، وما يظهره من الفواحش، والتشديد بذلك النهي والزجر والترجع فليس من معنى الحديث في شيء. اهـ.
وقال ابن فرحون في التبصرة: مسألة: ذكر في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { ومن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما } . وفي رواية مسلم: { فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه } . وفي رواية أبي عوانة الإسفراييني في كتابه المخرج على صحيح مسلم: { فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر } . وفي رواية: { إذا قال لأخيه يا كافر فقد وجب الكفر } , قيل معناه فقد رجع عليه تكفيره, فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير, لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا, فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، أو لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام. قاله النووي في شرح صحيح مسلم. وقال المازري قوله: وإلا رجعت عليه. يحتمل أن يكون إذا قالها مستحلا فيكفر باستحلاله. قال النووي: وقيل معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر , يعني أنه يخاف على المكثر من ذلك أن يكون عاقبة شؤمها الكفر والمصير إليه. قال ابن عبد البر: والمعنى فيه عند أهل الفقه، والأثر، والجماعة النهي عن تكفير المسلم في هذا الحديث. وقد ورد مثل هذا في قوله عليه السلام: { سباب المسلم فسق، وقتاله كفر } , وقوله عليه السلام: { لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم } , وقوله: { لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض } . فهذه الأحاديث ليست على ظاهرها عند أهل الحق والعلم والأصول, يدفعها أقوى منها من الكتاب والسنة المجمع عليهما والآثار الثابتة أيضا, وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب, فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين, واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقوله تعالى: { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } ونحو هذا , والحجة عليهم قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } , ومعلوم أن هذا قبل الموت لمن لم يتب؛ لأن الشرك من تاب منه وانتهى عنه غفر له, قال الله تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } . وأجمعوا أن المذنب وإن مات مصرا ترثه ورثته, ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. فهذا كله يشهد أن من قال لأخيه: يا كافر ليس على ظاهره يعني تمام الحديث, وقوله: فقد باء بها أحدهما, أي فقد احتمل الذنب في ذلك القول, والمعنى أن المقول له يا كافر إن كان كذلك فقد احتمل ذنبه ولا شيء على القائل له ذلك, لصدقه في قوله: وإن لم يكن كذلك فقد باء القائل بذنب كبير وإثم عظيم احتمله بقوله ذلك. قاله ابن عبد البر في التمهيد في شرح الموطأ. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) نقلا عن القرطبي المالكي: وقال القرطبي: ... والحاصل أن المقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه. كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة. اهـ.
والله أعلم.