عنوان الفتوى : تفصيل خلاف العلماء في حكم استلحاق ابن الزنا
في بعض الفتاوى في الموقع ذكرتم أن ابن الزنا لا ينسب إلى أبيه وأنه قول جمهور العلماء ، وفي فتاوى أخرى ذكرتم أن بإمكانه استلحاقه به ، فما الصواب في هذه المسألة ، وهل القول بجواز الاستلحاق قول معتبر يمكن الأخذ به ؟ وما الدليل على هذا القول ؟
الحمد لله.
أولاً :
من المهمات التي اعتنت بها الشريعة " النسب" وهو لحمة شرعية بين الأب وابنه تنتقل من السلف إلى الخلف ؛ ويترتب عليه الكثير من الأحكام في: الرضاع ، والنكاح ، والحضانة ، والولاية ، والنفقة ، والميراث ، والقصاص ، وحد السرقة ، والقذف ، والشهادة وغيرها .
قال الشاه ولي الله الدهلوي : " اعْلَم أَن النّسَب أحد الْأُمُور الَّتِي جُبل على محافظتها الْبشر، فَلَنْ ترى إنْسَانا فِي إقليم من الأقاليم الصَّالِحَة لنشء النَّاس إِلَّا وَهُوَ يحب أَن ينْسب إِلَى أَبِيه وجده ، وَيكرهُ أَن يقْدَح فِي نسبته إِلَيْهِمَا... فَمَا اتّفق طوائف النَّاس على هَذِه الْخصْلَة إِلَّا لِمَعْنى فِي جبلتهم ، ومبنى شرائع الله على إبْقَاء هَذِه الْمَقَاصِد الَّتِي تجْرِي بجري الجبلة " انتهى من "حجة الله البالغة" (2/ 222).
وقال ابن القيم : " إثْبَاتَ النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ ، وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ ، وَحَقٌّ لِلْأَبِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا بِهِ قِوَامُ مَصَالِحِهِمْ ، فَأَثْبَتَهُ الشَّرْعُ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا نِتَاجُ الْحَيَوَانِ" انتهى من "الطرق الحكمية" (ص: 191)
وقد اتفق العلماء على أن الفراش هو الأصل في ثبوت النسب ، والمراد بالفراش : الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة .
قال الشيخ عبد الوهاب خلاف : " المراد شرعاً بالفراش : الزوجية القائمة حين ابتداء الحمل ، فمن حملت وكانت حين حملت زوجة يثبت نسب حملها من زوجها الثابتة زوجيتها به حين حملت، من غير حاجة إلى بينة منها، أو إقرار منه، وهذا النسب يعتبر شرعا ثابتا بالفراش". انتهى من "أحكام الأحوال الشخصية" (ص: 186)
قال ابن القيم : " فَأَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ فَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ ". انتهى من "زاد المعاد" (5/368).
وقال ابن الأثير : " وإثبات، النسب وإلحاقه بالفراش المستند إلى عقد صحيح أو ملك يمين، مذهب جميع الفقهاء ، لم يختلف فيه أحد من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين وغيرهم " انتهى من "الشافي في شرح مسند الشافعي" (5/49)
واختلف العلماء في الزاني إذا أراد استلحاق ابنه من الزنا به ، هل يثبت نسبه له شرعاً أم لا ؟
ثانياً :
لمسألة استلحاق الزاني لابنه من الزنا صور:
الأولى :
أن تكون المرأة المزني بها ذات فراش ، أي متزوجة ، وأتت بولد بعد ستة أشهر من زواجها ، ففي هذه الحال ينسب الولد إلى الزوج ، ولا ينتفي عنه إلا بملاعنته لزوجته.
ولو ادعى رجل آخر أنه زنى بهذه المرأة وأن هذا ابنه من الزنا ، لم يلتفت إليه بالإجماع ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) رواه البخاري (2053) ، ومسلم (1457).
قال ابن قدامة : " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشٍ رَجُلٍ ، فَادَّعَاهُ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ " انتهى من "المغني" (9/123) .
الثانية :
أن لا تكون المرأة ذات فراش ، ولا يستلحقه الزاني به ، ولا ادَّعي أنه ابنه من الزنا ، ففي هذه الحال لا يُلحق به أيضاً قولاً واحداً .
فلم يقل أحد من أهل العلم بإلحاق ولد الزنا بالزاني من غير أن يدعيه الزاني.
وقد أشار الماوردي في "الحاوي الكبير" (8/455) إلى " إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالزِّنَا".
أي إذا لم يدعه .
الصورة الثالثة :
إذا لم تكن المرأة فراشاً لأحد ، وأراد الزاني استلحاق هذا الولد به .
فهذه الصورة محل الخلاف بين العلماء.
قال ابن قدامة : " وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وُلِدَ عَلَى غَيْرِ فِرَاشٍ " .
انتهى من "المغني" (9/123).
وهي مسألة مهمة جداً كما قال ابن القيم: " هَذِهِ مَسْأَلَةٌ جَلِيلَةٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا " انتهى من "زاد المعاد" (5/381).
ثالثاً:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين :
الأول : أن ابن الزنا لا يُنسب إلى الزاني ولو ادعاه واستلحقه به .
وهو قول عامة العلماء من المذاهب الأربعة والظاهرية وغيرهم .
ينظر: "المبسوط" للسرخسي (17/154) ، "بدائع الصنائع" للكاساني (6/243) ، "المدونة" (2/556) ، "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (3/20) ، " المغني" (6/228) ، "المحلى" (10/142).
وبناء على هذا القول : فإن ولد الزنا – ذكرا كان أو أنثى – لا ينسب إلى الزاني ، ولا يقال إنه ولده ، وإنما ينسب إلى أمه ، وهو محرَم لها ، ويرثها كبقية أبنائها .
قال ابن قدامة المقدسي : " وَوَلَدُ الزِّنَى لَا يَلْحَقُ الزَّانِيَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ ".
انتهى من " المغني " (9/123) .
وعلى هذا القول فتوى الشيخ ابن إبراهيم كما في "فتاواه " (11/146) ، والشيخ ابن باز كما في "مجموع فتاواه" (28/ 124) ، رحمة الله عليهما .
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (20/387 ) : " الصحيح من أقوال العلماء أن الولد لا يثبت نسبه للواطئ إلا إذا كان الوطء مستنداً إلى نكاح صحيح أو فاسد أو نكاح شبهة أو ملك يمين أو شبهة ملك يمين ، فيثبت نسبه إلى الواطئ ويتوارثان ، أما إن كان الوطء زنا فلا يلحق الولد الزاني ، ولا يثبت نسبه إليه ، وعلى ذلك لا يرثه " . انتهى .
القول الثاني : أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنا فإنه يلحق به .
وهو قول عروة بن الزبير ، وسليمان بن يسار، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وإسحاق بن راهويه، كما نقله عنهم ابن قدامة في "المغني" (9/123).
وروى الدارمي في "السنن" (3106) عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ : فَهُوَ يَرِثُهُ ".
قَالَ بُكَيْرٌ : وَسَأَلْتُ عُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ " .
قال ابن القيم : " كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ الزِّنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ ، وَادَّعَاهُ الزَّانِي : أُلْحِقَ بِهِ ... وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، رَوَاهُ عَنْهُ إسحاق بِإِسْنَادِهِ فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا، فَادَّعَى وَلَدَهَا فَقَالَ: يُجْلَدُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ". انتهى من "زاد المعاد" (5/381)
قال ابن قدامة : " وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا أَرَى بَأْسًا إذَا زِنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ ، أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ حَمْلهَا ، وَيَسْتُرَ عَلَيْهَا ، وَالْوَلَدُ وَلَدٌ لَهُ ". انتهى من "المغني" (9/123).
واختار هذا القول : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وتلميذه ابن القيم .
قال ابن مفلح رحمه الله : " واختار شيخنا أنه إن استلحق ولده من زنا ولا فراش : لحقه " انتهى من "الفروع" (6/625).
ونسبه إليه البعلي في "الاختيارات الفقهية" صـ 477 .
وقال المرداوي : " وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ اسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ من الزنى وَلَا فِرَاشَ: لَحِقَهُ.
وَنَصُّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيها : لَا يَلْحَقُهُ .
وقال في الِانْتِصَارِ في نِكَاحِ الزَّانِيَةِ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فيه ، وقال في الِانْتِصَارِ أَيْضًا : يَلْحَقُهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَذَكَرَ أبو يَعْلَى الصَّغِيرُ وَغَيْرُهُ مِثْلَ ذلك ".
انتهى من "الإنصاف" (9/269) .
واختاره أيضاً من المعاصرين : الشيخ محمد رشيد رضا في "تفسير المنار" (4/382)، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ، كما في "الشرح الممتع" (12/127).
رابعاً : استدل جمهور العلماء على عدم لحوق ولد الزنى بالزاني :
1- بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) ، متفق عليه .
ووجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل ولداً لغير الفراش ، كما لم يجعل للعاهر سوى الحجر ، وإلحاق ولد الزنا بالزاني إلحاق للولد بغير الفراش .
فقوله (الولد للفراش ) يقتضي حصر ثبوت النسب بالفراش.
قال الكاساني : " النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْرُج الْكَلَامَ مُخْرَجَ الْقِسْمَةِ ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجْرَ لِلزَّانِي ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ ، كَمَا لَا يَكُونُ الْحَجْرُ لِمَنْ لَا زِنَا مِنْهُ ، إذْ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَنَفَاهُ عَنْ الزَّانِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ) لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ ، فَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ، فَعَلَى هَذَا إذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلَادَةَ ".
انتهى من "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (6/242) .
وقال أبو بكر الجصاص: "وقوله: (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) قد اقتضى معنيين:
أحدهما: إثبات النسب لصاحب الفراش .
والثاني: أن من لا فراش له فلا نسب له ؛ لأن قوله "الولد" اسم للجنس، وكذلك قوله "الفراش" للجنس، لدخول الألف واللام عليه ، فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر، فكأنه قال: لا ولد إلا للفراش" انتهى من "أحكام القرآن" (5/159).
وقال ابن حزم الظاهري : " نفى صلى الله عليه وسلم أولاد الزنى جملة بقوله عليه الصلاة والسلام " وللعاهر الحجر " ، فالعاهر - أي الزاني - عليه الحد فلا يلحق به الولد ، والولد يلحق بالمرأة إذا أتت به ، ولا يلحق بالرجل ، ويرث أمه وترثه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ألحق الولد بالمرأة في اللعان ونفاه عن الرجل " انتهى من "المحلى" (10/322).
وقال ابن عبد البر: " البيان من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا ، وأن الولد للفراش على كل حال ، والفراش : النكاح ، أو ملك اليمين لا غير .
أجمع العلماء - لا خلاف بينهم فيما علمته - أنه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه إلا من نكاح أو ملك يمين ، فإذا كان نكاح أو ملك فالولد للفراش على كل حال ".
انتهى من "الاستذكار" (2/167).
2- واستدلوا بما رواه أحمد (6660) ، وأبو داود (2265) ، وابن ماجه (2746) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى : ( أَيُّمَا مُسْتَلْحَقٍ اسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ ، قَضَى :
إِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ تَزَوَّجَهَا أَوْ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمَا اسْتَلْحَقَهُ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ عَاهَرَ بِهَا : لَمْ يَلْحَقْ بِمَا اسْتَلْحَقَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ ادَّعَاهُ ، وَهُوَ ابْنُ زِنْيَةٍ لِأَهْلِ أُمِّهِ مَنْ كَانُوا حُرَّةً أَوْ أَمَةً) واللفظ لأحمد.
والحديث حسنه : البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/93) ، والشيخ الألباني، ومحققو المسند ، وصححه الشيخ أحمد شكر .
ففي هذا الحديث دلالة على أن من استلحق ولداً من الزنا – بحرة أو أمة -: لم يلحق به، وإنما ينسب لأمه .
قَالَ الْخَطَّابِيّ موضحا المقصود من الحديث : " هَذِهِ أَحْكَامٌ قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوائل الإسلام ومبادىء الشَّرْعِ وَهِيَ:
أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَاسْتَلْحَقَ لَهُ وَرَثَتُهُ وَلَدًا : فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي يدَّعى الْوَلَدَ لَهُ وَرَثَتُهُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْهُ : لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَهُ : فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَتِهِ : لَحِقَهُ ، وَوَرِثَ مِنْهُ مَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ مِنْ مَالِهِ ، وَلَمْ يَرِثْ مَا قُسِمَ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةِ غَيْرِهِ ... أَوْ مِنْ حُرَّةٍ زَنَى بِهَا : لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَا يَرِثُ ، بَلْ لو استلحقه الواطىء لم يلحق به ، فإن الزنى لَا يُثْبِتُ النَّسَبَ" .
انتهى نقلا عن "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاوي (2/408).
وهذا الدليل هو أقوى ما يستدل به أصحاب هذا القول ، فهو صريح في أن الزاني إذا استلحق ابناً له من الزنا لا يلحقه .
حتى قال ابن القيم : " إِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ ، وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ".
انتهى من "زاد المعاد" (5/384).
3- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ ، مَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ لَحِقَ بِعَصَبَتِهِ ، وَمَنْ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ : فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ) رواه أبو داود في سننه (2264) .
" ( لَا مُسَاعَاة فِي الْإِسْلَام ) الْمُسَاعَاة الزِّنَا ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيّ يَجْعَلهَا فِي الْإِمَاء دُون الْحَرَائِر لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَسْعَيْنَ لِمَوَالِيهِنَّ فَيَكْسِبْنَ لَهُمْ بِضَرَائِب كَانَتْ عَلَيْهِنَّ .
قَالَ فِي مَعَالِم السُّنَن : إِنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانَتْ لَهُمْ إِمَاء يُسَاعِينَ وَهُنَّ الْبَغَايَا اللَّوَاتِي ذَكَرهنَّ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِذَا كَانَ سَادَتهنَّ يُلِمُّونَ بِهِنَّ وَلَا يَجْتَنِبُوهُنَّ ، فَإِذَا جَاءَتْ إِحْدَاهُنَّ بِوَلَدٍ وَكَانَ سَيِّدهَا يَطَؤُهَا وَقَدْ وَطِئَهَا غَيْره بِالزِّنَا فَرُبَّمَا اِدَّعَاهُ الزَّانِي وَادَّعَاهُ السَّيِّد ، فَحَكَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَلَدِ لِسَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَمَة فِرَاش السَّيِّد كَالْحُرَّةِ وَنَفَاهُ عَنْ الزَّانِي .
وقوله (وَلَدًا مِنْ غَيْر رِشْدَة ) : يُقَال هَذَا وَلَد رِشْدَة بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح ، مَنْ كَانَ بِنِكَاحٍ صَحِيح ، وَوَلَد زِنْيَة مَنْ كَانَ بِضِدِّهِ " انتهى ملخصا من "عون المعبود" (6/ 353) .
لكن الحديث ضعيف ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : "فِي إِسْنَاده رَجُل مَجْهُول" .
وقال ابن القيم : " وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ ، فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ".
انتهى من " زاد المعاد " (5/382).
وضعفه : الشيخ أحمد شاكر والألباني أيضاً. ينظر: "مسند أحمد" (5/139) ، "ضعيف أبي داود" (2264).
4- أن هذا هو الذي جرى عليه عمل المسلمين في العصور المتقدمة .
قال الإمام أبو يوسف : " وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ غَيْرَ وَاحِدٍ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُمَا وَالسَّلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْحُدُودَّ عَلَى الزُّنَاةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مَنْهُمْ أَنَّهُ قَضَى مَعَ ذَلِكَ بِمَهْرٍ ، وَلَا أَثْبَتَ مِنْهُ نَسَبَ الْوَلَدِ" انتهى من "الرد على سير الأوزاعي" (ص: 51) .
خامساً : استدل من قال بإلحاق ابن الزنا به إذا استلحقه:
1-أن هذا الطفل متولد من مائه ، فهو ابنه قدراً وكوناً ، ولا يوجد دليل شرعي صحيح صريح يمنع من إلحاق نسبه به .
قال الشيخ ابن عثيمين : " الولد للزاني ، وذلك لأن الحكم الكوني الآن لا يعارضه حكم شرعي فكيف نلغي هذا الحكم الكوني ، مع أننا نعلم أن هذا الولد خلق من ماء هذا الرجل ؟ فإذا استلحقه وقال هو ولده فهو له ...
وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من العلماء ، يلحقونه ويقولون : إن هذا الولد ثبت كونه للزاني قدراً ، ولم يعارضه حكم شرعي ، فلا نهمل الحكم القدري بدون معارض ، أما لو عارضه الحكم الشرعي فمعلوم أن الحكم الشرعي مقدم على الحكم القدري " انتهى من "فتح ذي الجلال" (12/318) .
وأما حديث : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) فهو وارد في حال وجود الفراش ، ومسألتنا في حال عدم وجود الفراش .
قال شيخ الإسلام : " فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا : لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (32/ 113) .
فقد حكم بذلك صلى الله عليه وسلم عند تنازع الزاني وصاحب الفراش كما ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 8174).
ونقل ابن القيم عن إسحاق بن راهويه أنه : " أُوَّلَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَنَازُعِ الزَّانِي وَصَاحِبِ الْفِرَاشِ" .
انتهى من "زاد المعاد" (5/381) .
وقال الشيخ ابن عثيمين : " قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) جملتان متلازمتان ، فيما إذا كان عندنا فراش وعاهر" .
انتهى من "الشرح الممتع" (13/ 308) .
وفي هذه المسألة لا ينازع الزاني أحد في نسب هذا الولد .
وقال الشيخ ابن عثيمين : " حديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر) يدل أن هناك رجلين ، زان وصاحب فراش كل واحد منهما يدعي أن الولد له ، صاحب الفراش يقول: هذا ولدي ولد على فراشي ، والزاني يقول: هذا ولدي خلق من مائي ، فهنا نغلب جانب الشرع كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) .
أما إذا كان الزاني لا ينازعه أحد في ذلك، يعني: زنا بامرأة بكر -مثلاً- أو امرأة ليس لها زوج ولم يدّعِ أحدٌ هذا الولد وقال الزاني: إنه ولدي فهو له " .
انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (63/ 21، بترقيم الشاملة آليا).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " الجمهور على أنه عام ، وأنه لا حق للزاني في الولد الذي خلق من مائه ، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا خاص في المخاصمة، يعني إذا تخاصم الزاني وصاحب الفراش قضينا به لصاحب الفراش ، أما إذا كان لا منازع للزاني ، واستلحقه فله ذلك ويلحق به ، وهذا القول هو الراجح المناسب للعقل، وكذلك للشرع عند التأمل" انتهى من "الشرح الممتع " (12/127).
وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: في رجل غصب رجلا على امراته فأولدها ، ثم رجعت إلى زوجها وقد أولدها .
قال : " لا يلزم زوجها الأولاد ، وكيف يكون الولد للفراش في مثل هذا ، وقد علم أن هذه في منزل رجل أجنبي وقد أولدها في منزله ، إنما يكون الولد للفراش إذا ادعاه الزوج ، وهذا لا يدعى : فلا يلزمه". انتهى من "بدائع الفوائد" (4/120).
واعتبار الألف واللام في الحديث للجنس كما قال الجصاص ، متنازع فيه ، فقد مال الزرقاني إلى أنها للعهد ، فقال: " أل للعهد ، أي الولد للحالة التي يمكن فيها الافتراش ". شرح الزرقاني على الموطأ (4/25).
وأما حديث : (وَإِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ عَاهَرَ بِهَا : لَمْ يَلْحَقْ بِمَا اسْتَلْحَقَهُ ...).
فهذا الحديث مداره على عمرو بن شعيب يرويه عن أبيه عن جدة ، وهذه سلسلة اختلف المحدثون فيها كثيراً ، وهو وإن كان الأرجح تحسين حديثه إن كان الراوي عنه ثقة إلا أن تفرده بمثل هذا الحديث الذي يعد أصلاً في بابه يدعو للتوقف في قبول روايته .
قال الإمام أحمد : " أَصْحَابُ الحَدِيْثِ إِذَا شَاؤُوا: احْتَجُّوا بِحَدِيْثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَإِذَا شَاؤُوا: تَرَكُوْهُ ".
انتهى من "سؤالات أبي دواد للإمام أحمد" ص230.
أي أنهم لا يحتجون به مطلقاً ، ولا يردون حديثه مطلقا ، بل بحسب حال كل حديث .
قال الذهبي: " هَذَا مَحْمُوْلٌ عَلَى أَنَّهُم يَتَرَدَّدُوْنَ فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ ، لاَ أَنَّهُم يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيْلِ التَّشَهِّي" انتهى من "سير أعلام النبلاء" (5/167).
ثم إن الرواة له عن عمرو بن شعيب : ضعفاء ومتكلم فيهم ، وأمثلهم رواية : محمد بن راشد يرويه عن سليمان بن موسى ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
وفي كلٍ من : محمد بن راشد ، وسليمان بن موسى ، نزاع بين أهل الحديث :
أما محمد بن راشد المكحولي الشامي ، فوثقه الإمام أحمد ، وابن معين ، وابن المديني، وغيرهم.
وقال أبو حاتم: صدوق.
وقال شعبة: "ما كتبت عنه ، أما إنه صدوق ، ولكنه شيعي أو قدري".
وقال ابن حبان : "كان من أهل الورع والنسك ، ولم يكن الحديث من صنعته ، وكثرت المناكير في روايته فاستحق الترك ".
وقال الدارقطني: "يعتبر به".
وقال ابن عدي : " وليس برواياته بأس ، إذا حدث عنه ثقة فحديثه مستقيم ".
وفي التقريب : " صدوق يهم ، ورمي بالقدر".
وقال البيهقي : " مُحَمَّد بن رَاشد ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث". انتهى من "البدر المنير" (8 /430).
ينظر: "تاريخ ابن معين" - رواية الدوري - (4 / 465)، "الجرح والتعديل" (7/253) ، "الضعفاء الكبير" للعقيلي (7/440)، "الكامل في الضعفاء" (6/202) ، "ميزان الاعتدال" (3/543) ، "تهذيب التهذيب" (9/140).
وأما الراوي الثاني المتكلم فيه فهو سليمان بن موسى القرشي الأموي الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه .
وقد وثقه دُحَيم ، ويحيى بن معين ، والدارقطني ، وابن سعد وابن حبان .
قال ابن عَدي : "وسليمان بن موسى فقيهٌ راوٍ حدَّث عنه الثقات ، وهو أحد علماء أهل الشام ، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره ، وهو عندي ثبت صدوق ".
ومن العلماء من غمز في ضبطه وإتقانه .
قال أبو حاتم: "محله الصدق، وفى حديثه بعض الاضطراب".
وقال البخاري: "عنده مناكير".
وقال " "سليمان بن موسى منكر الحديث ، أنا لا أروي عنه شيئا ، روى سليمان بن موسى أحاديث عامتها مناكير". انتهى من "علل الترمذي الكبير" (1/93) .
وقال النسائي: "أحد الفقهاء، وليس بالقوي في الحديث".
وقال ابن حجر في التقريب: " صدوق فقيه في حديثه بعض لين ، وخولط قبل موته بقليل".
ينظر: "الكاشف" (1/464) ، "تهذيب التهذيب" (4/198) ، "مغانى الأخيار" (1/477)
وقال المنذري : " رَوى عن عَمرو هذا الحديث ، محمد بن راشد ، وفيه مقال " .
انتهى من "عون المعبود" (6/255) .
والحاصل :
أن الحديث لا يخلو من مغمز فيه ، ولذلك قال ابن القيم : " لأهل الحديث في إسناده مقال ؛ لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي". انتهى من "زاد المعاد" (5/383) .
ومثل هذا الحديث الذي ينفرد بروايته مثل هؤلاء الرواة الذين لم يبلغوا شأواً عالياً في الضبط والإتقان ، ولم يتابعهم على روايته أحد من المشهود لهم بهذا الفن ، مع أهمية الموضوع الذي يتضمنه الحديث : لا يرقى لدرجة الحجية .
ولذلك قال البيهقي: " مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ وَإِنْ كُنَّا نَرْوِى حَدِيثَهُ لِرِوَايَةِ الْكِبَارِ عَنْهُ ، فَلَيْسَ مِمَّنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ ". انتهى من "سنن البيهقي" (2/483).
قال ابن رجب: " أما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث - إذا تفرد به واحد - وإن لم يرو الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علةً فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ، ولهم في كل حديث نقد خاص".
انتهى من "شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/216).
والحديث أخرجه عبد الرزاق أيضاً في المصنف (10/289) عن ابن جريج قال: قال عمرو بن شعيب : ( وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل مستلحق ....).
ولكن قال أبو بكر الأثرم : " قال لي أبو عبد الله: إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان، وأخبرت ، جاء بمناكير ، فإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به " .
انتهى من "تاريخ بغداد" (10/405).
وقال أبو الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل : " إذا قال ابن جريج قال ، فاحذره ، وإذا قال سمعت أو سألت جاء بشيء ليس في النفس منه شيء ".
انتهى من "تهذيب الكمال" (18/348).
2- أن عمر بن الخطاب ألحق أولادا ولدوا في الجاهلية بآبائهم .
فروى مالك في " الموطأ " (1451) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ : " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنْ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ .
وفي سنده انقطاع فسليمان بن يسار لم يدرك عمر رضي الله عنه .
قال الباجي : " يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يُلْحِقُهُمْ بِهِمْ وَيَنْسُبُهُمْ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا لِزِنْيَةٍ ".
انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (6/11) .
قال ابن عبد البر: " هذا إذا لم يكن هناك فراش ؛ لأنهم كانوا في جاهلتهم يسافحون ويناكحون وأكثر نكاحاتهم على حكم الإسلام غير جائزة ".
انتهى من "التمهيد" (8/183) .
والمنازعون في هذا يقولون : هذا خاص بأهل الجاهلية فلا يلحق بهم غيرهم .
قال ابن عبد البر: " إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم ويلحقهم بمن استلحقهم إذا لم يكن هناك فراش ؛ لان أكثر أهل الجاهلية كانوا كذلك
وأما اليوم في الإسلام بعد أن أحكم الله شريعته وأكمل دينه ، فلا يلحق ولد من زنا بمدعيه أبدا عند أحد من العلماء كان هناك فراش أولم يكن".
انتهى من "الاستذكار" (7/164).
وقال : " هذا منه كان خاصاً في ولادة الجاهلية حيث لم يكن فراش ، وأما في ولادة الإسلام فلا يجوز عند أحد من العلماء أن يلحق ولد من زنا ".
انتهى من "الاستذكار" (7/172) [ نفي ابن عبد البر وجود الخلاف محل نظر كما لا يخفى ].
وقال الماوردي : " وَالْعِهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْعِهَارِ فِي الْإِسْلَامِ ".
انتهى من "الحاوي الكبير" (8/456).
وذهب جمهرة من المالكية إلى أن الحكم يشمل كل من دخل في الإسلام
قال الباجي : " رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي جَمَاعَةٍ يُسْلِمُونَ فيستلحقون أَوْلَادًا مِنْ زِنًى ، فَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا وَلَمْ يَدَّعِهِمْ أَحَدٌ لِفِرَاشٍ فَهُمْ أَوْلَادُهُمْ
قَالَ : وَمَنْ ادَّعَى مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَوْلَادًا مِنْ الزِّنَا فَلْيُلَاطُوا بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الزِّنَا فِي دِينِهِمْ فَجُعِلَ ذَلِكَ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الزِّنَا .
وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ مَنْ أَسْلَمَ الْيَوْمَ فَاسْتَلَاطَ وَلَدًا بِزِنًا فِي شِرْكِهِ فَهُوَ مِثْلُ حُكْمِ مَنْ أَسْلَمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ " انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (4/31) .
وقال ابن العربي : " قال علماؤنا: كان أولئك أولاد لزَنْيَةٍ [ أي الذين ألحقهم عمر بآبائهم ] ، وكذلك السُّنَّةُ اليومَ فيمن أسلمَ من النَّصَارى واليهود، ثمّ ادَّعَى ولدًا كان من زنا في حال نصرانيَّتِه ، أنّه يُلحَق به إذا كان مجذوذَ النَّسَبِ ، لا أَبَ لهَ ولا فِرّاشَ فيه ".
انتهى من "المسالك في شرح موطأ مالك" (6/383) .
والتفريق بين أمر الجاهلية والإسلام : غير ظاهر؛ لأن النسب أمر قدري كوني بغض النظر عن اعتقاد الزاني .
وإلحاق ولد الزنا بأبيه إذا استلحقه حكم لا يختلف في جاهلية ولا إسلام ، ولا فرق فيه بين معذور وغيره .
3- يشهد لما سبق من جواز الإلحاق ما جاء في قصة جريج العابد ، لما قال للغلام الذي زنت أمه بالراعي : (قالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ ، قَالَ : الرَّاعِي...) متفق عليه .
فكلام الصبي كان على وجه الكرامة وخرق العادة من الله ، وقد أخبر أن الراعي أبوه ، مع أن العلاقة علاقة زنى ؛ فدل على إثبات الأبوة للزاني .
قال ابن القيم: " وَهَذَا إِنْطَاقٌ مِنَ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِبُ ".
انتهى من" زاد المعاد" (5/382).
وقال القرطبي : " النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصدَّق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته ، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فثبتت البنوة وأحكامها".
انتهى من "الجامع لأحكام القرآن" (5/115).
وقال الشيخ ابن عثيمين : " واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن ولد الزنى يلحق الزاني؛ لأن جريجاً قال: من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، وقد قصها النبي صلى الله عليه وسلم علينا للعبرة، فإذا لم ينازع الزاني في الولد واستلحق الولد فإنه يلحقه ، وإلى هذا ذهب طائفة يسيرة من أهل العلم ". انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3/75) .
4- القياس .
قال ابن القيم : " الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِيهِ ، فَإِنَّ الْأَبَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ ، وَهُوَ إِذَا كَانَ يُلْحَقُ بِأُمِّه ِ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا ، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِ أُمِّهِ مَعَ كَوْنِهَا زَنَتْ بِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الزَّانِيَيْنِ ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُمَا ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِالْأَبِ إِذَا لَمْ يَدِّعِهِ غَيْرُهُ ؟
فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ". انتهى من "زاد المعاد" (5/381).
5- أن هذا القول تترتب عليه مصالح كثيرة ومنها :
* أن الشارع يتشوف لحفظ الأنساب ورعاية الأولاد ، والقيام عليهم بحسن التربية والإعداد ، وحمايتهم من التشرد والضياع .
قال الشيخ ابن عثيمين : "والشارع له تشوف إلى إلحاق الناس في أنساب معلومة". انتهى من "الشرح الممتع" (15/501).
وقال أيضاً : " أما إذا لم يكن له منازع واستلحقه فإنه يلحقه ؛ لأنه ولده قدراً ، فإن هذا الولد لا شك أنه خلق من ماء الزاني فهو ولده قدراً ، ولم يكن له أب شرعي ينازعه ، وعلى هذا فيلحق به.
قالوا : وهذا أولى من ضياع نسب هذا الولد ؛ لأنه إذا لم يكن له أب ضاع نسبه، وصار ينسب إلى أمه ". انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3/75).
"وفي نسبة ولد الزنا إلى أبيه تحقيق لهذه المصلحة ، خصوصًا أن الولد لا ذنب له ، ولا جناية حصلت منه ، ولو نشأ من دون أب ينسب إليه ويعني بتربيته والإنفاق عليه لأدى ذلك في الغالب إلى تشرده وضياعه وانحرافه وفساده ، وربما نشأ حاقدًا على مجتمعه ، مؤذيًا له بأنواع الإجرام والعدوان " ينظر: "فقه الأسرة عند ابن تيمية" (2/759).
* أن في هذا القول حثًا للزاني على نكاح من زنا بها وإعفافها، وستر أهلها وولدها.
* وفيه حل لمشكلة هؤلاء الأولاد الناتجين من الزنا، فلا يشعرون بأنهم ولدوا في الحرام والظلام ، ولا يحسون بالقهر والظلم إثر ما وقع عليهم ، فينشئون مع إخوانهم من النكاح الصحيح نشأة صالحة ، وينتسبون إلى أسرة يهمهم سمعتها ، والمحافظة على شرفها وكرامتها.
* ومن الآثار المحتملة بل الواقعة غالباً : سهولة انحراف مجهول النسب ، في حبائل الفساد والرذيلة والشرور التي تتعدى إلى المجتمع بأكمله !
وقد ذكر عدد من المختصين في دور رعاية اللقطاء : أن هذه الفئة - وبنسبةٍ غالبة - مقارنةً بغيرهم ، ينشأون وهم ينقمون على مجتمعهم ، لذلك يسهل لديهم الوقوع في الجـريمة .
* فيه تحقيق لمقصد تخفيف الشر: فإن في استلحاق ولد الزنا تخفيف لآثار الجريمة التي وقع فيها الزاني ، فالزنا فاحشةٌ محرمةٌ وتزداد فحشاً وقبحاً كلما تعدى أثرها إلى غير الزاني والزانية ؛ فالزنا بالمتزوجة أو بحليلة الجار أشد قبحاً من الزنا بغيرها، والزنا الذي يترتب عليه حَمْلٌ أعظم خطراً من الذي لا ينتج عنه حَمْل؛ ومن ترميم بعض آثار الزنا استلحاق ولد الزنا.
* في هذا القول تحقيق لمبدأ العــدل الذي أمر الله به ومن العدل الذي جاءت به شريعةُ الله ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، فهذا الولد الناتج من هذه الممارسة الخاطئة لا ذنب له ولا جريرة ، وفي نفي النسب عنه من أبيه إذا استلحقه عقوبة له بأمر لم يكن له فيه يد .
* ومن مبدأ العدل استواء العقوبة بين الرجل والمرأة : فإنه من القواعد المُـقررةِ في الشـريعة استواء العقاب بين أهل الجريمة إذا كانت المقارَفة لها على حدٍ سواء.
* أن هذه المشكلة موجودة بكثرة بين المسلمين الجدد ، فيسلم أحدهم مع خليلته وهي حامل منه من الزنا، وهو يرغب نكاحها واستلحاق ولده منها، وقد يكون له علاقة محرمة بزوجته قبل أن يتزوجها، وله أولاد منها من الزنا، وأولاد آخرون بعد نكاحها، فيقع في ورطة لا يحلها إلا الستر عليه ، وإلحاق أولاده من الزنا به.
* أن في هذا القول ترغيبًا لمن يريد الدخول في الإسلام ممن ابتلي بهذه البلية ، ولو قيل لأحدهم: إن أولادك من الزنا الذين يعيشون في كنفك وينتسبون إليك لا يلحقون
بك شرعًا – لربما صده ذلك عن الدخول في الإسلام.
قال ابن القيم : " هذا المذهب كما تراه قوةً ووضوحاً ، وليس مع الجمهور أكثر من (الولد للفراش) ، وصاحب هذا المذهب أول قائل به ، والقياس الصحيح يقتضيه".
انتهى من " زاد المعاد " (5/374).
والحاصل :
أن القول بالمنع والجواز قولان معتبران عند أهل العلم ، وهذه المسألة من مسائل الاجتهاد ، ويبقى النظر في كل واقعة بملابساتها ، فإذا كان الولد يضيع ديناً أو دنياً فالأخذ بالقول بالاستلحاق فيه تحقيق مصلحة حفظه ، وهي مصلحة شرعية .
نسأل الله السلامة والعافية .
وللاستزادة ينظر:
- " فقه الأسرة عند ابن تيمية في الزواج وآثاره " ، رسالة دكتوراة ، محمد بن أحمد الصالح.
- " النسب ومدى تأثير المستجدات العلمية في إثباته "، سفيان بن عمر بورقعة. ( رسالة دكتوراه).
- " نسب ولد الزنا " ، الشيخ عدنان بن محمد الدقيلان ، بحث منشور في " مجلة العدل " ( عدد22).
- " أحكام ولد الزنا " ، إبراهيم بن عبد الله القصيّر ، (بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير).
- " حكم نسبة المولود إلى أبيه من المدخول بها قبل العقد " ، للدكتور عبد العزيز الفوزان.
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |