عنوان الفتوى : ضوابط شرعية في التعامل مع أهل الكتاب
أدرس في جامعة عربية، ولدي زميلات من النصارى. فما حكم رد السلام إن سلموا علينا بتحية الإسلام؟ وما حكم ابتدائهم بتحية غير تحية الإسلام أو الرد عليهم بغير تحية الإسلام؟ وما حكم الأكل من طعامهم إن كانوا يأكلون الجبس وما شابه ليس هم من صنعه؟ وهل يجوز الأكل من طعامهم الذي يصنعونه؟ وهل قوله تعالى (طعام أهل الكتاب حل لكم) يعني كل أهل الكتاب حتى هؤلاء الذين قد دخلت في عقيدتهم أمور خاطئة؟ وما حكم التعاون معهم في الدراسة؟ وما حكم تهنئتهم بعيدهم؟ وهل قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه. رواه مسلم. الأرجح أنه يشمل كل النصارى في زماننا؟ الرجاء قدر الامكان عدم توجيهي إلى فتاوى سابقة. وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسنجيب على أسئلتك هذه في نقاط،. ومنها ما يلي:
أولا: أن ابتداء الكافر بالتحية - غير السلام - منعه بعض العلماء وأجازه آخرون، فإذا كانت هنالك مصلحة راجحة أو دفع مضرة فلا بأس بابتدائهم بها.
قال الشيخ ابن عثيمين في فتاويه: وإذا كانت هناك حاجة داعية إلى بدء الكافر بالتحية فلا حرج فيها حينئذ ، ولتكن بغير السلام ، كما لو قال له : أهلا وسهلا أو كيف حالك ونحو ذلك، لأن التحية حينئذ لأجل الحاجة لا لتعظيمه. اهـ.
والحديث الذي أشرت إليه شامل لكل اليهود والنصارى في زماننا وفي غيره.
ثانيا: إذا سلم الكافر وجب الرد عليه، قال الشيخ أيضا: ولكنهم إذا سلموا وجب علينا أن نرد عليهم ، لعموم قوله تعالى :( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) ، وكان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : السام عليك يا محمد ، والسام بمعنى الموت يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن اليهود يقولون : السام عليكم فإذا سلموا عليكم فقولوا : وعليكم "فإذا سلم غير المسلم على المسلم وقال : " السام عليكم " فإننا نقول : وعليكم " . وفي قوله صلى الله عليه وسلم " وعليكم " دليل على أنهم إذا كانوا قد قالوا : السلام عليكم فإن عليهم السلام فكما قالوا نقول لهم ، ولهذا قال بعض أهل العلم : إن اليهودي أو النصراني أو غيرهم من غير المسلمين إذا قالوا بلفظ صريح : "السلام عليكم " جاز أن نقول : عليكم السلام. اهـ . وهذا بالنسبة للسلام.
وأما اضطرارهم إلى أضيق الطريق فقد قال القرطبي: معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً. قال ابن حجر: وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأول في المعنى وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجؤوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم لأن ذلك أذى لهم وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب. اهـ.
ثالثا: لا يجوز تهنئة النصارى أو غيرهم من الكفار بأعيادهم الدينية لأنها من خصائص دينهم أو مناهجهم الباطلة.
قال الإمام ابن القيم: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه... إلخ. ذكره في كتابه أحكام أهل الذمة.
رابعا: طعام أهل الكتاب إذا كان من غير الذبائح يجوز أكله ما لم يكن محرما في نفسه، وإن كان من الذبائح فيجوز أكله بشرط أن يذبحوه على الطريقة الشرعية، فإذا ذبحوه بالصعق الكهربائي أو الخنق مثلا فلا يحل. ودخول الانحراف على عقائدهم ليس بمانع شرعا من الأكل من ذبائحهم، فقد أباح الله تعالى ذبائح أهل الكتاب والزواج من نسائهم مع علمه تعالى بما هم عليه من تحريف لدينهم.
خامسا: معاملة الكفار بالحسنى رخصة قد جاء بها الشرع كما قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}.
قال القرطبي في تفسيره: هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. اهـ.
فعلى هذا لا حرج في التعامل معهم فيما يتعلق بأمر الدراسة. وينبغي أن يقصد المسلم ترغيبهم في الإسلام ببيان محاسنه من خلال أقواله وأفعاله حتى يؤجر على ذلك، ولعله يسلم أحد بسببه فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. متفق عليه.
وننبه إلى أنه لا يختلف في هذه الأحكام النصارى الأقدمون عن نصارى زماننا. فقد جاءت النصوص في هذا عامة، والأصل العموم.
والله أعلم.