عنوان الفتوى : لماذا ندعو الناس إلى الإسلام وقد عُلِم أهل الجنة وأهل النار؟
لماذا ندعو الناس للإسلام ونجتهد في ذلك بينما هنالك نسبة ثابتة لمن سيدخل الجنة والنار كما ذكرت في الحديث من كل ألف؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا بعينه هو السؤال القديم الذي لا يزال يتردد في بعض الأذهان وعلى بعض الألسنة، وهو إذا كان الله قد قدر فلماذا العمل؟ وقد أجاب عنه النبي صلى الله عليه وسلم بما أزال الإشكال ورفع الجدال فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
وحاصل الجواب أن الله تعالى جعل الأشياء بأسبابها، فإذا كان سبحانه قد علم أهل الجنة وأهل النار وقدر للجنة ناسا هم لها عاملون، فإنه قدر ذلك بأسباب، فدعوتنا الناس إلى الإسلام هي أحد الأسباب التي يقدر الله بها هداية من يشاء هدايته، ويكتب بها للداعي مثل أجر المهتدي على يديه، وقد شرع الله لعباده أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويجاهدوا في سبيله ويدعوا إلى الخير، ووعدهم على ذلك أتم الجزاء وأوفره، فلو عطلوا شرعه بحجة أن من شاء هدايته سيهتدي لفسد نظام العالم، وكانوا بذلك مخالفين للشرع والعقل معا، ولا نرى أحدا من الناس يترك السعي والتكسب بحجة أن ما قدر له من رزق فهو نائله ولا بد، ولا رأينا أحدا يترك الأكل والشرب بزعم أنه لو قدر له أن يشبع لشبع، ففيم التفريق بين الأسباب الدنيوية والأسباب الشرعية، وكلاهما جعل سببا لنتيجة قدرها الله وعلمها أزلا، فالواجب على المسلم أن يدعو إلى الله تعالى تعظيما لأمره ونصرة لدينه وإقامة لشرعه مؤمنا بأنه لن يهتدي إلا من قدر هو هدايته، ولكنه يبذل وسعه في الأخذ بما أمر بالأخذ به من الأسباب، وهذا كلام نافع في هذا الباب للعلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ نسوقه للفائدة، قال في الكلام على قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى: وقد تضمنت هاتان الآيتان فصل الخطاب في مسألة القدر وإزالة كل لبس وإشكال فيها وذلك بين بحمد الله لمن وفق لفهمه، ولهذا أجاب بها النبي من أورد عليه السؤال الذي لا يزال الناس يلهجون به في القدر فأجاب بفصل الخطاب وأزال الأشكال، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي أنه قال: ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار، قيل يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. إلى أن قال عليه الرحمة: وهذا الذي أرشد إليه النبي هو الذي فطر الله عليه عباده بل الحيوان البهيم بل مصالح الدنيا وعمارتها بذلك فلو قال كل أحد إن قدر لي كذا وكذا فلا بد أن أناله وإن لم يقدر فلا سبيل إلى نيله فلا أسعى ولا أتحرك لعد من السفهاء الجهال ولم يمكنه طرد ذلك أبداً وإن أتى به في أمر معين فهل يمكنه أن يطرد ذلك في مصالحه جميعها من طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وهروبه مما يضاد بقاءه وينافي مصالحه أم يجد نفسه غير منفكة البتة عن قول النبي: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ـ فإذا كان هذا في مصالح الدنيا وأسباب منافعها فما الموجب لتعطيله في مصالح الآخرة وأسباب السعادة والفلاح فيها ورب الدنيا والآخرة واحد فكيف يعطل ذلك في شرع الرب وأمره ونهيه ويستعمل في إرادة العبد وأغراضه وشهواته؟ وهل هذا إلا محض الظلم والجهل؟ والإنسان ظلوم جهول ظلوم لنفسه جهول بربه فهذا الذي أرشد إليه النبي وتلا عنده هاتين الآيتين موافقاً لما جعله الله في عقول العقلاء وركب عليه فطر الخلائق حتى الحيوان البهيم وأرسل به جميع رسله وأنزل به جميع كتبه ولو اتكل العبد على القدر ولم يعمل لتعطلت الشرائع وتعطلت مصالح العالم وفسد أمر الدنيا والدين. انتهى.
والله أعلم.