عنوان الفتوى : نبذة عن كتاب " التوابين " لابن قدامة ، ووقفة مع قصة توبة " ذي الرِّجل "
قرأت في كتاب " التوابين " لابن قدامة عن أحد عبَّاد بني إسرائيل ويُدعى " ذو الرِّجل " ، أريد أن أعرف مدى صحة القصة من ناحية السند ، وما رأيكم بالكتاب المذكور .
الحمد لله
أولاً:
كتاب " التوابين " من الكتب المشتهرة ، وهو من تأليف الشيخ موفق الدين عبد الله بن
قدامة المقدسي رحمه الله ( توفي 620 هـ ) ، وقد ذكر فيه مائة وثلاثين قصة توبة ،
ابتدأها بذكر التوابين من الملائكة عليهم السلام ، وذكر تحته قصة الملَكين " هاروت
وماروت " ولا نراه وافق الصواب في ذِكر أن الملَكين وقعا في معصية ثم تابا ، وقد
بينَّا حقيقة قصتهما وما ورد فيهما من الآيات في جوابي السؤالين (
128543 ) و (
104055 ) .
ثم ذكر التوابين من الأنبياء عليهم السلام ، ثم التوابين من ملوك الأمم الماضية ،
ثم التوابين من الأمم ، ثم التوابين من آحاد الأمم الماضية ، ثم ذكر أخبار التائبين
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر التوابين من ملوك هذه الأمة ، ثم
ذكر سبب توبة جماعة من هذه الأمة رحمة الله عليهم ، ثم ذكر أخبار جماعة من التوابين
، ثم ختم الكتاب بذكر أخبار جماعة ممن أسلموا .
ومع ما في مطالعة الكتاب من الفائدة ، والعبرة
والموعظة ، وتحريك النفوس إلى التوبة والإنابة بمطالعة حال أهلها ؛ إلا أن في بعض
القصص التي أوردها في الكتاب ، خاصة ما نقله عن الأمم السابقة ، ما يحتاج لتوقف
ومراجعة ونقد ؛ لما في بعض ما ينقله من نكارة في المتن وغرابة في السياق ، ومخالفة
للشرع وخصوصاً ما كان النقل فيه عن الأمم السابقة ، كما في القصة موضع السؤال ،
ولذا رأينا انتقاد بعض العلماء لبعض ما جاء في الكتاب من قصص وحكايات ، ومن هؤلاء
المنتقدين الإمام السخاوي رحمه الله حيث قال :
في كتاب " التوابين " لشيخ الإسلام الموفق بن قدامة أشياء ما كنت أحب له إيرادها ،
خصوصاً وأسانيدها مختلة .
" الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ " ( ص 108 ) .
ثانياً:
القصة التي رغب الأخ السائل السؤالَ عنها فقد ذكرها ابن قدامة رحمه الله تحت عنوان
" توبة ذي الرِّجل " ثم قال :
أخبرنا محمد أنا علي بن محمد أنا علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا الحسين بن
صفوان أنا عبد الله بن محمد حدثني محمد بن الحسين عن موسى بن داود عن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم عن أبيه قال : كان في بني إسرائيل رجل يتعبد في صومعته فمكث بذلك
زماناً طويلاً ، فأشرف يوماً فإذا هو بامرأة ، فافتتن بها وهمَّ بها ، فأخرج رجله
لينزل إليها ، فأدركه الله بسابقة فقال : ما هذا الذي أريد أن أصنع ورجعتْ إليه
نفسه وجاءته العصمة فندم ، فلما أراد أن يعيد رجله في صومعته قال : هيهات هيهات
رِجل خرجتْ تريد أن تعصي الله تعود معي في صومعتي ، لا يكون والله ذلك أبداً ،
فتركها والله معلقة من الصومعة تصيبها الرياح والأمطار والشمس والثلج حتى تقطعت
فسقطت فشكر الله عز وجل له ، فأنزل في بعض الكتب ( وذو الرِّجل ) يذكُره بذلك .
انتهى ( ص 79 ) القصة رقم ( 30 ) .
وبالتأمل في القصة نجد :
1. أنها حديث عن توبة عابد من عبَّاد بني إسرائيل ينقلها بعض التابعين ، فليس هنا
إسناد يُمكن أن يُذكر ليتم الحكم على القصة من خلال النظر فيه ، وأين ذاك الإسناد
في الأصل الذي يربط بين تابعي وبين رجل من بني إسرائيل ؟! لكن ليس على من حدَّث عن
بني إسرائيل حرج إذا أداه كما سمعه :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا
عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ). قال السيوطي – رحمه الله – في معنى
الحديث - :
قال الشافعي : الحديث عن بني إسرائيل إذا حدثتَ به فأديته على ما سمعته ، حقّاً كان
أو غير حق : لم يكن عليك حرج ، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي
أن يحدث به إلا عن ثقة .
" تحذير الخواص من أكاذيب القصاص " ( 72 ، 73 ) .
2. أنه يغلب على عبَّاد بني إسرائيل الجهل والضلال ، ولذا لا يُستبعد – لو صحت
القصة – عن ذاك العابد مثل ذاك الفعل المنكر .
3. وفي القصة نكارة واضحة بيِّنة – لو صحت - ، حيث عرَّض ذاك العابد رِجلَه للرياح
والأمطار والثلوج والشمس حتى تلفت ثم قُطعت فسقطت ! ولا ندري على أي شريعة يمكن أن
تأتي بهذا الفعل للتائب الذي همَّ بالمعصية ، ولا ندري كيف كان يشرب ويأكل ويصلي
ويقضي حاجته ورِجله معلَّقة في الهواء ! والذي يظهر بالعادة والنظر في أحوال الناس
، أن تعليق الرجل بتلك الطريقة المذكورة في القصة لا يكون معه قطع للرجل وإن حصل
فإنه يستغرق وقتاً طويلاً ، فهل يمكن لشخص أن يتحمل هذا كل تلك السنين ؟
وعلى كل حال : فوجوه النكارة والبعد في القصة كثيرة ، ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها
هنا .
والخلاصة : أن الكتاب جيِّد من حيث الجملة ، ولا يخلو
من ملاحظات ، والقصة المذكورة منكرة في متنها ، لا ينبغي نسبتها لشرع من قبلنا ،
ولو صحَّت فهي تناسب فعل عابد جاهل ، أو متعمق لا يدري ما الشريعة .
والله أعلم