عنوان الفتوى : الحكمة والرحمة في الاقتصاص من القاتل
والله يا شيخنا أنني أواجه تناقضا مع نفسي، فأنا أحب الله ورسوله، ولكن عندما أرى الحدود مثل حد القتل يصعب على نفسي وأرى أنه الحق في نفس الوقت فلا يصح ترك القاتل ولكن أنظر لها أن الله رحيم جدا في كل الكائنات، فكيف تكون رحمة الله في قطع الرأس بالسيف مع أنني أقبل حدود الله مهما كانت والله إنني كنت سأنفذها على ابني، أو أبي لو قتلوا فذلك ما يرضاه الله، ولكن يصعب على نفسي وأبكي، فقد شاهدت حد القصاص وقطع رأس القاتل فأبكاني وأنا لا أفهم في حكمة الله شيئا وأوافق على تنفيذها مهما كانت ولكن يصعب على نفسي ويرق قلبي.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاستسلامك وانقيادك لحكم الله عز وجل في هذا الشأن ـ والحمد الله ـ من أركان إسلامك وإيمانك، وما يعتريك من رأفة وشفقة على المقتول عند مشاهدتك للقصاص لا تؤثر على إيمانك ما دمت منقادا لذلك مصدقا به، إذ الواجب على المسلم أن يعلم أن أحكام الله جل وعلا كلها عدل وحكمة، قال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {الأنعام:115}.
وأن يقابل أحكام الله سبحانه بالقبول والانقياد والتسليم، فهذا من الشروط التي لا يحصل الإيمان إلا بها، وقد بينا هذا مفصلا في الفتويين رقم: 5824, ورقم: 64472.
وما ذكرت من تأثرك عند رؤية تطبيق القصاص ورأفتك بالمقتص منه, نظرة قاصرة ولو أنك نظرت للأمر نظرة شاملة محيطة ترى فيها ما ارتكبه هذا الجاني من الاعتداء على النفس المصونة التي حرمها الله إلا بالحق وما ترتب على ذلك من كسر قلوب أهل المقتول وتيتيم أطفاله وإشاعة الخوف والرعب في المجتمعات الآمنة لعلمت أن مقتضى الحكمة هي قتل هذا القاتل، ولو أنك تأملت تعطيل هذا الحد وما يترتب عليه من هرج وفوضى لعلمت أن مقتضى الحكمة والرحمة هي قتل القاتل, ذلك أن أولياء المقتول لن يرضوا إلا بقتل القاتل ولن ترضى نفوسهم بدون هذا, وسيقودهم ترك القصاص إلى السعي إلى قتل القاتل، أو قتل من يقدرون عليه من أقاربه وأرحامه ثم يستمر الفعل ورد الفعل حتى تنتشر الفوضى ويعم الفساد، أما القصاص فإنه يسد باب الفتنة ويحسم مادة الشر, وصدق الله سبحانه، إذ يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {البقرة:179}.
جاء في تفسير الألوسي: يا أولي الألباب ـ يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى، وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام، لأنهم أهل التأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس. انتهى.
ثم إن من طوعت له نفسه قتل أخيه إذا علم أنه سيقتل به، فإن هذا سيكون أعظم رادع له عن القتل يقول الشنقيطي في أضواء البيان: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ـ يعني أن من علم أنه يقتل إذا قتل يكون ذلك رادعاً له وزاجراً عن القتل. انتهى.
ويقول في موطن آخر: قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ـ ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديماً وحديثاً قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم كتاب الله، لأن القصاص رادع عن جريمة القتل، كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفاً، وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة، لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحْبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كله كلام ساقط عار من الحكمة، لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل. انتهى.
والله أعلم.