عنوان الفتوى : لماذا كان مَن لعن عائشة رضي الله عنها كافراً ولم يكن كذلك مَن قاتلها يوم " الجمل " ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

في حرب " الجمل " قاتل جيش علي بن أبي طالب عائشة وجيشها قـتالاً بالسيوف ، ولم يقل أحد بكفر علي وجيشه لأنهم قاتلوا أم المؤمنين . السؤال : هل يكون كافراً مَن لعن عائشة بينما لم يكفر من رفع سيفه عليها ؟ . وجزاكم الله كل خير .

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله

لا شك أن الأمر يختلف ، ولذا كان الحكم مختلفاً ؛ فإن عائشة رضي الله عنها لم يصدر منها ما يبيح قذفها وسبَّها ، وقد برأها الله تعالى مما اتهمها به المنافقون من فعل الفاحشة ، ولذا كان الذي يتهمها بما برأها الله منه : كافراً مرتدّاً ؛ لأنه يكون مكذِّباً لله تعالى ، وهذا ما اتفقت عليه كلمة العلماء فيمن قذفها أو سبَّها أو لعنها لأجل ذلك .

قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النور/ 23 - :

وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ، ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذُكر في هذه الآية : فإنه كافر ؛ لأنه معاند للقرآن ، وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما : أنهن كهي ، والله أعلم .

" تفسير ابن كثير " ( 6 / 31 ، 32 ) .

وتجد أقوال العلماء في حكم هذا الساب في جواب السؤال رقم ( 954 ) .

وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بوقعة " الجمل " حيث كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مشاركة بالفعل ، وكانت متأولة في خروجها للبصرة ، حيث ظنت أن القضاء على قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه هناك كفيل في الإصلاح بين معاوية ومن معه في الشام ، وبين علي ومن معه في المدينة ، ثم لما وقعت الحرب بين جيش معاوية وجيش علي رضي الله عنهما لم تشارك فيها رضي الله عنها ، بل جاءت على جملها وسط المعركة ظانَّة أنهم سيوقفون الحرب ، لكنَّ الخوارج وأهل الفتنة أبوا ذلك واستمروا بالقتال ، بل قد نالت سهامهم جملَها حتى سقط في أرض المعركة .

قال الطبري – رحمه الله - :

وأقبل " كعب بن سور " حتى أتى عائشة رضي الله عنها فقال : " أدركي فقد أبى القوم إلا القتال لعل الله يصلح بكِ " ، فركبت ، وألبسوا هودجها الأدراع ، ثم بعثوا جملَها وكان جملها يدعى " عسكراً " حملها عليه " يعلى بن أمية " ، اشتراه بمائتي دينار .

" تاريخ الطبري " ( 3 / 40 ) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :

فإنَّ عائشة لم تقاتِل ، ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجتْ لقصد الإصلاح بين المسلمين ، وظنَّتْ أنَّ في خروجها مصلحةً للمسلمين ، ثم تبيَّن لها فيما بعد أنَّ ترك الخروج كان أولى ، فكانتْ إذا ذكرتْ خروجَها تبكي حتى تبل خمارها ، وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ، فندم طلحة ، والزبير ، وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين ، ولم يكن " يوم الجمل " لهؤلاء قصد في الاقتتال ، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم .

" منهاج السنة " ( 4 / 316 ) .

فكما ترى فإن عائشة رضي الله عنها قد صدر منها مخالفة في خروجها للبصرة ، وليست هي بمعصومة حتى لا يقع منها مثل هذا الخطأ بذلك التأويل .

عن قيس بن أبي حازم قال : لمَّا أقبلتْ عائشة رضي الله عنها بلغت مياه " بني عامر " ليلاً : نبحتْ الكلابُ ، قالت : أيُّ ماءٍ هذا ؟ قالوا : ماء " الحَوْأَب " - ماء قريب من البصرة ، على طريق مكة - ، قالت : ما أظنني إلا أنَّني راجعة ، فقال بعضُ من كان معها : " بل تَقْدَمين فيراكِ المسلمون فيصلح الله ذات بينهم " ، قالت : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يومٍ : ( كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلاَبُ الحَوْأب ؟ ) .

قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - :

ليس كلُّ ما يقع مِن الكُمَّل يكون لائقاً بهم ، إذ المعصوم من عصمه الله ، والسنيُّ لا ينبغي له أنْ يغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصافِّ الأئمة الشيعة المعصومين عندهم ، ولا نشك أنَّ خروجَ أمِّ المؤمنين كان خطأً مِن أصله ، ولذلك همّتْ بالرجوع حين علمتْ بتحقُّقِ نبوءةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عند " الحَوْأَب " ، لكن الزبير رضي الله عنه أقنعها بترك الرجوع بقوله : " عسى الله أنْ يصلح بك النَّاس " ، ولا نشك أنَّه كان مخطئاً في ذلك أيضاً ، والعقل يقطع بأنَّه لا مناص مِن القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ، ولا شك أنَّ عائشةَ رضي الله عنها هي المخطئة لأسبابٍ كثيرةٍ ، وأدلةٍ واضحةٍ ، ومنها : ندمها على خروجها ، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها ، وذلك مما يدل على أنَّ خطأها مِن الخطأ المغفور ، بل : المأجور .

" السلسلة الصحية " ( الحديث رقم 474 ) .

ولذلك صحَّ عنها أنها ندمت وأنها كانت تبكي على ما صدر منها .

قال الذهبي - رحمه الله - :

ولا ريب أن عائشة ندمت ندامةً كليَّةً على مسيرها إلى البصرة ، وحضورهما يوم الجمل ، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ .

" سير أعلام النبلاء " ( 2 / 177 ) .

وأما القتال الذي دار بين معاوية ومن معه وبين علي ومن معه : فهو قتال فتنة ، وكان سببه أهل الفتنة والفساد ، وكان الحق في جانب علي بن أبي طالب ، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الطائفتين بأنهم مسلمون فأنَّى لأحدٍ أن يكفرهم ؟! ولا فرق في الحكم الشرعي بين من قاتل عائشة وقاتل عليّاً وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم ، وهذا بخلاف من سبَّ عائشة وقذفها فيما لم تفعله ، بل فيما برأها الله تعالى منه .

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ ) . رواه مسلم ( 1064 ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :

فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلتا الطائفتين المقتتلتين - علي وأصحابه ، ومعاوية وأصحابه - على حق ، وأن عليّاً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه ؛ فإن علي بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين وهم " الخوارج الحرورية " الذين كانوا من شيعة علي ، ثم خرجوا عليه ، وكفروه ، وكفروا من والاه ، ونصبوا له العداوة ، وقاتلوه ، ومن معه .

" مجموع الفتاوى " ( 4 / 467 ) .

وخلاصة ذلك نوجزها فيما يلي:

1. قذف عائشة رضي الله عنها وسبُّها ولعنها فيما برأها الله تعالى منه : كفر ، وردة ، بالإجماع.

2. أخطأت عائشة رضي الله عنها بالخروج لقتل قتلة عثمان رضي الله عنها ، وكانت متأولة في فعلها ، قاصدة للإصلاح بين معاوية وعلي رضي الله عنهما .

3. علمت رضي الله عنها خطأَها ، فندمت ، وبكت ، على ما فعلت .

4. لم تشارك عائشة رضي الله عنها بالقتل يوم " الجمل " بل جاءت على جملها لتوقف بذلك الحرب ، ولكنَّ أهل الفتنة والخوارج استمروا بالقتال بل صوبوا سهامهم نحوها ونحو جملها .

والله أعلم