عنوان الفتوى : الخطأ في الفتوى والإفتاء بالباطل
إذا باع الرجل دينه بعرض من الدنيا، وكان بعض الناس يظنون فيه العلم ويقبلون قوله مقابل مال، أو غيره وقد أفتى فتاوى لا يقبلها الشرع أحل فيها الحرام وحرم فيها الحلال مقابل الحفاظ على منصب، أو مقابل الحصول على مال، فهل يجوز لي أن أبين للناس قوله الضال والذي قد يتسبب في ضحك بعض الناس، أو ضحكي أنا شخصياً على بعض الفتاوى الغريبة؟ وهل يكون ذلك من باب الغيبة؟ وهل تقبل شهادة ذلك الرجل؟ وهل تحليله لما حرم الله وتحريمه لما حرم الله يجعله كافراً إن كان يعتقد في داخله عكس ما يقوله، ولكنه يقول ما يقول للحصول على مغنم من مغانم الدنيا فيضل الناس؟ والله المستعان.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فههنا جملة من النقاط نريد أن ننبه عليها وبها يتبين جواب سؤالك:
أولا: لا يجوز اتهام مسلم بهذا الاتهام الخطير وهو أنه باع دينه بعرض من الدنيا من غير بينة صادقة ودليل محقق، وبخاصة إذا كان منسوبا إلى العلم، فالأصل في المسلمين السلامة، وقد تكون هذه الفتاوى التي تستنكرها صحيحة في نفس الأمر، وإنما أتيت أنت من قبل جهلك، وقد تكون خاطئة وصاحبها مجتهد معذور يظن الحق فيما ذهب إليه، فالتريث التريث قبل الطعن في أحد، أو اتهامه بما قد يكون بريئا منه، فإن المسلم كله حرام على المسلم دمه وماله وعرضه، وراجع للفائدة كتاب الإعلام بحرمة أهل العلم للشيخ: محمد إسماعيل المقدم.
ثانيا: تبيين الخطأ إذا تحقق وقوعه وتحذير الناس من الاغترار بالفتاوى الشاذة واتباع زلات العلماء أمر مهم، ولا يدخل ذلك في الغيبة المحرمة فلا زال أهل العلم يرد بعضهم على بعض ويبين بعضهم خطأ بعض، ولكن لا بد من تحقق كون هذا القول خطئا في نفس الأمر، وأن يكون الإنكار بأدب وتوقير لقائل هذا القول ومراعاة لحرمته واعتذار عنه إن كان من أهل العلم، فإن الخطأ لا يسلم منه أحد، وأما إن تحقق بالبينات القاطعة كونه أفتى بهذا القول عن هوى وأنه تعمد كتم الحق والفتوى بالباطل فقد أسقط حرمة نفسه وصار بهذا الفعل فاسقا لا تقبل له شهادة.
ثالثا: إذا كتم العالم الحق وأفتى بالباطل مع اعتقاده أنه باطل فهو على خطر عظيم، وقد غش بذلك المسلمين وخانهم، ولكنه لا يكفر بذلك إلا إذا أفتى مختارا بإباحة ما علم من الدين بالضرورة أنه محرم، أو بتحريم ما علم من الدين بالضرورة أنه مباح، قال ابن القيم مبينا وعيد من يكتم الحق ويفتي بخلافه: وآفة أحدهم الكذب والكتمان فمتى كتم الحق، أو كذب فيه فقد حادَّ الله في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه إذا فعل ذلك كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعين إذا كتما وكذبا أن يمحق بركة بيعهما، ومن التزم الصدق والبيان منهم في مرتبته بورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما، فبالكتمان يعزل الحق عن سلطانه وبالكذب يقلبه عن وجهه والجزاء من جنس العمل، فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه أهل الصدق والبيان، ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخزي بين عباده، فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد. انتهى
وقال ـ أيضا رحمه الله: ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلا فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنا لله ورسوله وللسائل وغاشا له والله لا يهدي كيد الخائنين وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للاسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به. انتهى.
وأما من أخطأ في فتواه بتأويل، أو تقليدا لمن يسوغ تقليده فلا تبعة عليه ولا يلحقه ذلك الوعيد.
والله أعلم.