عنوان الفتوى : حكم صلاة المأمومين إذا كانوا منحرفين عن القبلة
خصصت لنا الإدارة في مقر عملنا مكانا للصلاة، تصميمه غير متجه إلى القبلة، فكنا من قبل نصلي والإمام مستقبلا القبلة دون المأمومين. لكن بعدما علمنا من خلال حلقة من حلقات الشيخ عبد الله المصلح أنه على الجميع استقبال القبلة لأنه شرط من شروط صحة الصلاة، أحضرنا البوصلة، ورسمنا خطوطا بحيث يكون الجميع مستقبلا القبلة الشيء الذي اعتبره بعض الإخوة بدعة مستدلين بالآية الكريمة: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم. مع العلم أننا أطلعناهم على الفتوى رقم 12462 لكنهم لم يقتنعوا. المرجو توضيحا مفصلا مع بيان الآية الكريمة. وجزاكم الله اوفر الجزاء وأعانكم على خدمة دينه.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإذا كان المأمومون ينحرفون عن القبلة بحيث لا يكونون مستقبلين لجهتها فإن صلاتهم بذلك تقع باطلة بلا شك، وأما إن كان هذا الانحراف يسيرا بحيث يصدق عليهم أنهم مستقبلون لجهة الكعبة فصلاتهم صحيحة على الراجح، وإن أمكن أن يستقبلوا عين الكعبة فهو أولى خروجا من خلاف من أبطل صلاة من استقبل الجهة دون العين، وتفصيل ما ذكرناه في الفتوى رقم: 138747، فكونكم تعدلون الجهة التي يستقبلها المأمومون في الصلاة أمر حسن بلا شك، وهو إما واجب على الاحتمال الأول وإما مستحب على الاحتمال الثاني، واعتراض هؤلاء المعترضين غلط منهم، واستدلالهم بالآية في غير محله، فهذه الآية إما منسوخة بالأمر باستقبال القبلة، وإما مراد بها الصلاة على الراحلة في السفر حيث توجهت، وإما مراد بها حيث خفيت القبلة ولم تتبين، وإما مراد بها تولية الوجه للدعاء، كما هي أقوال للمفسرين ذكرها وغيرها ابن جرير وعنه ابن كثير.
وأما أن يكون المراد بها أن استقبال القبلة في الصلاة غير لازم، فهذا الذي لم يقله أحد من أهل العلم، ونحن نلخص من كلام القرطبي طرفا يتبين به معنى الآية ووجهها.
قال رحمه الله: اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه " فأينما تولوا " على أقوال: فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: " فأينما تولوا فثم وجه الله ".
قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة. . وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته.
أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت " فأينما تولوا فثم وجه الله. ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله.
ولا يجوز لأحد أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف. وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات ؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية - يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الاية، ونزل فيه: " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله" فكان هذا عذرا للنجاشي، وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة. ...... القول الرابع : قال ابن زيد : كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا : ما اهتدى إلا بنا ، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، فنزلت: " ولله المشرق والمغرب " فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة فعل، لا حجة ) عليه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون. القول الخامس - أن الآية منسوخة بقوله: " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، ذكره ابن عباس، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك. انتهى ملخصا.
وجمع السعدي بين بعض هذه الأقوال بعبارة حسنة مختصرة فقال رحمه الله ما عبارته:: { فأينما تولوا } وجوهكم من الجهات، إذا كان توليكم إياها بأمره، إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس، أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها، فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة، فيتحرى الصلاة إليها، ثم يتبين له الخطأ، أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور، إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا. انتهى
وفي فتح القدير للشوكاني عليه الرحمة: أي أي جهة تستقبلونها فهناك وجه الله : أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } قال في الكشاف : والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام : أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان. انتهى. وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس. انتهى. وبكل حال فليس لهم على دعواهم تلك حجة من هذه الآية، بل ليس لأحد من المسلمين ترك استقبال القبلة في الفريضة مع القدرة على ذلك، والأولى كما ذكرنا هو استقبال عين الكعبة إن أمكن، فما فعلتموه هو الصواب ولا يتوجه عليكم فيه إنكار البتة، بل إنما يتوجه الإنكار على من أنكر عليكم.
والله أعلم.