عنوان الفتوى : حكم الشورى وهل هي خاصة بالحكام
ما حكم الشورى فى الإسلام، هل هي واجبة أم مندوبة، وإذا كانت واجبة فعلى من تجب هل على الحكام فقط أم على كل مسؤول بينه وبين رعاياه، فأرجو توضيح آراء الفقهاء المختلفة؟ وجزاكم الله كل خير، وأسكنكم الفردوس الأعلى.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الشورى أمر شرعي من أعظم أوامر الإسلام، ويتأكد العمل بها فيما أشكل من الأمور التي لا يوجد فيها نص من الوحي، فقد قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {آل عمران:159}، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {43}، قال الجصاص: هذا يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أنا مأمورون بها. انتهى.
وفي الحديث عن علي رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فبم تأمرنا، قال: شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة. رواه الطبراني في الأوسط. وقال فيه الهيثمي: رجاله موثقون من أهل الصحيح. انتهى. وقال صاحب كنز العمال: الحديث عن هذه الطريق حسن صحيح. وعن الحسن البصري رحمه الله: ما تشاور قوم قط، إلا هدوا لأرشد أمورهم. رواه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر وقوى إسناده الحافظ في الفتح.. والأدلة الشرعية على ذلك كثيرة جداً، من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل استشارته قبيل معركة بدر لمعرفة مدى استعداد أصحابه للقتال، ونزوله على رأي الحباب بن المنذر في اختيار المكان الملائم لنزول الجيش وهو أدنى مقام من ماء بدر، وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قبول الفداء من أسرى بدر المشركين، وقبل موقعة أحد استشار الأصحاب في شأن الخروج من المدينة، وقبل رأي الكثرة الشباب التي أشارت بالخروج، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك: أشيروا علي معشر المسلمين في قوم.... واستشار أيضاً أصحابه في رد سبي هوازن، وفي استطابة أنفسهم بذلك، دون تعويض عن حقهم وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فترك ذلك وقد روى عبد الرزاق في المصنف عدة آثار تحض عليها، وقال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا أو شبانا، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل. انتهى.
وأخرج البيهقي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابه (بهجة المجالس): الاستبداد مذموم عند جماعة الحكماء، والمشورة محمودة عند عامة العلماء، ولا أعلم أحداً رضي الاستبداد وحمده، إلا رجل واحد مفتون، مخادع لمن يطلب عنده لذته فيرقب غرته، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، ويرتصد الفرصة، وكلا الرجلين فاسق مائق. انتهى.
وهي مشروعة للحكام فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين وسياسة الرعية ويلحق بهؤلاء القضاة وكل ذي مسؤولية في إدارة أو أسرة أو غيرها، ولكن الأمر في شأنهم أخف من الولاة واختلف فيها هل هي واجبة أو سنة على الحكام، فالوجوب ينسب للنووي، وابن عطية وابن خويز منداد، والرازي، واستدلوا بقوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {آل عمران:159}، وظاهر الأمر في قوله تعالى (وشاورهم) يقتضي الوجوب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالمشاورة، أمر لأمته لتقتدي به ولا تراها منقصة كما مدحهم سبحانه وتعالى في قوله: وأمرهم شورى بينهم.
وأما الندب فينسب لقتادة وابن إسحاق والشافعي والربيع كذا في الموسوعة الفقهية، وقال القرطبي في التفسير: قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله (وأمرهم شورى بينهم) وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء، والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها... انتهى.
وأما غير الحكام فهي مشروعة لهم، ولكن عبارات الفقهاء غالباً تفيد الاستحباب فقط إذ يقولون دائماً ينبغي ويدل لمشروعيتها لغير الحكام ما دل عليه القرآن من أهمية شورى الأبوين في فطام الرضيع في قوله تعالى: فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سأعرض عليك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك. رواه مسلم. وقال القرطبي: قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء، وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضي حتى يكون عالماً بآثار من مضى، مستشيراً لذوي الرأي، حليماً نزها. انتهى.
وفي المبسوط للسرخسي: ينبغي للقاضي وإن كان عالماً أن لا يدع مشاورة العلماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه رضي الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم.. وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال: ادعوا لي علياً وادعوا لي زيد بن ثابت وأبي كعب رضي الله عنهم فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه.. انتهى.
وقال ابن عاشور عن الشورى: إنما تكون في الأمر المهم المشكل من شؤون المرء في نفسه، أو شؤون القبيلة، أو شؤون الأمة. انتهى..
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: فصل (في التزام المشورة في الأمور كلها، قال المروذي: كان أبو عبد الله لا يدع المشورة إذا كان في أمر حتى إن كان ليشاور من هو دونه، وكان إذا أشار عليه من يثق به أو أشار عليه من لا يتهمه من أهل النسك، من غير أن يشاوره قبل مشورته وكان إذا شاوره الرجل اجتهد له رأيه وأشار عليه بما يرى من صلاح، وظاهر هذا أنه يشاور في كل ما يهم به... انتهى.
والله أعلم.