عنوان الفتوى : مسائل حول المشاركة في الانتخابات والصلاة خلف من دعا إليها
أراسلكم من البوسنة والهرسك، وأنا موكّل من قبل مجلس إدارة إحدى جمعيات دعوية. قد وجدت قي الموقع عددا من الفتاوى تتعلق بقضيتنا، لكن نريد منكم الفتوى الخاصة المفصلة لكي تترجم و تنشر في بلدنا. سأحاول بقدر الإمكان أن أكون دقيقاً في طرح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما بالنسبة للسؤال الأول، فقد سأل الدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي العلامة ابنَ عثيمين عن المسلمين في أمريكا، هل يشاركون في الانتخابات التي تجري في الولايات لصالح مرشح يؤيد مصالح المسلمين؟ فأجاب بالموافقة دون تردد.
وسئل الشيخ في لقاءات (الباب المفتوح): ما حكم الانتخابات الموجودة في الكويت، علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فتنوا في دينهم؟ فأجاب بقوله: أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً؛ لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم ... اهـ.
وقد سبقت لنا فتوى حول دخول الانتخابات بنية تحقيق المصلحة الشرعية وهي برقم: 5141 وفيها يجد السائل بعض النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامتين السعدي وابن باز. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 18315 ، 24252.
وبذلك يتبين أن من الضلالة والجهالة: القول بكفر من يرى جواز الخروج للانتخابات بهدف تحقيق المصلحة لا إقرارا للحكم الوضعي. وغاية ما يمكن أن يقال مراعاة للخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة: إن من فعل ذلك دائر بين الأجر والأجرين، فإما أن يكون مصيبا فله أجران، وإما أن يكون مخطئا فله أجر واحد، شأنها في ذلك شأن سائر المسائل التي اختلف فيها أهل العلم.
وبذلك يتبين أن السؤال الثاني ليس له محل.
وأما السؤال الثالث: فلا يجوز عند جمهور العلماء تعدد الجمعة في البلد الواحد إلا إذا دعت حاجة ملحة كضيق المسجد بأهله، وقد سئلت (اللجنة الدائمة) عن تعدد الجمعة في البلد الواحد، فأجابت: ثبت أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد تقام فيه صلاة الجمعة بالمدينة إلا مسجد واحد هو المسجد النبوي، وكان المسلمون يأتون إليه لصلاة الجمعة به، من أطراف المدينة وضواحيها كالعوالي، واستمر الحال على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وذلك دليل عملي منه صلى الله عليه وسلم على القصد إلى جمع المسلمين في صلاة الجمعة في البلد الواحد على إمام واحد، إشعارا بوحدة القيادة، وجمعا للقلوب، وتأليفا للنفوس، وزيادة في التعارف، وتأكيدا لمعاني الأخوة، ولو كان تعدد الجمع في البلد الواحد من غير مبرر شرعي مباحا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم أن يصلي كل منهم الجمعة في مسجده بأطراف المدينة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وفي ذلك تيسير على أمته وتخفيف عنها، وعمل بعموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وعموم قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} فلما لم يأمرهم بالتعدد ولم يأذن لهم فيه، دل ذلك على قصده عليه الصلاة والسلام إلى توحيد الجمعة في البلد الواحد، وجمعهم على إمام واحد فيها؛ لما تقدم بيانه من الحكمة في ذلك اهـ.
وبذلك أفتى الشيخ ابن باز كما في (مجموع فتاويه 12 / 351).
وجاء في (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 2 / 305): من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأمير المكرم ناصر آل عبد الله آل راشد والإخوان ... وصلت خطوطكم، وتذكرون أن بعض جماعتكم انفردوا بأنفسهم، وفارقوا جماعتهم، وجعلوا لهم جمعة في المحلة الأولى، وأنهم قبل ذلك كانوا مجتمعين مع جماعتهم، يصلون جمعة واحدة، وأن بعض من ينتسب إلى العلم أفتاهم بانفرادهم، وصلاتهم جمعة ثانية في البلد لغير حاجة تدعو إلى ذلك، فاعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفا، أو سمع النداء فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة كضيق المسجد، وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم. وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام، وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا، وقواعد الشرع تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة أيضا على تحريم ما أوجب الفرقة واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله؛ فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله برفق: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} اهـ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): لا يجوز عند جمهور الفقهاء إقامة جمعتين في بلد واحد إلا لضرورة، كضيق المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لم يقيموا سوى جمعة واحدة اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 23537، 5597 ، 23537، 31016.
وأما السؤال الرابع، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل كما قال النبي في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا". وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولى غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا، وكان قد رد بدعة ببدعة، حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكره أكثرهم إعادتها حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة، ولهذا كان أصح قولي العلماء آن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد (مجموع الفتاوى (3/286 ، 287).
وقال كما في (مختصر الفتاوى المصرية ص 62): من قال: لا تجوز الصلاة خلف من لا تعرف عقيدته وما هو عليه. فهو قول لم يقله أحد من المسلمين؛ فإن أهل الحديث والسنة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم متفقون على أن صلاة الجمعة تصلي خلف البر والفاجر، حتى إن أكثر أهل البدع كالجهمية الذين يقولون بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، ومع أن أحمد ابتلي بهم وهو أشهر الأئمة بالإمامة في السنة، ومع هذا فلم تختلف نصوصه أنه تصلى الجمعة خلف الجهمي والقدري والرافضي وليس لأحد أن يدع الجمعة لبدعة في الإمام اهـ.
ولما تكلم العلامة ابن عثيمين عن الحاجة المبيحة لتعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد ضرب لها مثلا بضيق المسجد عن أهله ومشقة الحضور لتباعد أقطار البلد وخوف الفتنة، ثم قال: وليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف، وهو من أشد الناس ظلماً وعدواناً، يقتل العلماء والأبرياء، وكانوا يصلون خلفه، بل الصحيح أنه يجوز أن يكون الإمام فاسقاً، ولو في غير الجمعة (الشرح الممتع 5 / 73).
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 70763 ، 12270، 48361 ، 24537 .
وراجع للأهمية بشأن بدعية الذكر الجماعي الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 50010، 1000، 8381.
وأما السؤال الخامس، فالراجح هو أن الجمعة إذا وجدت شروط وجوبها صليت في أي مكان، كما سبق بيانه في الفتويين: 7637 ، 13870. وعلى ذلك فلو وجدت الحاجة المبيحة لتعدد صلاة الجمعة فلا حرج أن تقام في الأماكن المستأجرة أو الحوانيت والأسواق ونحو ذلك. ولذلك جاء في (فتاوى اللجنة الدائمة 8 / 263): الأصل أن تقام جمعة واحدة في البلد الواحد، ولا تتعدد الجمع إلا لعذر شرعي؛ كبعد مسافة على بعض من تجب عليهم، أو يضيق المسجد الأول الذي تقام فيه عن استيعاب جميع المصلين، أو نحو ذلك مما يصلح مسوغا لإقامة جمعة ثانية، فعند ذلك يقام جمعة أخرى في مكان يتحقق بإقامتها فيه الغرض من تعددها، فعلى الإخوة السائلين أن يلتمسوا مكانا آخر وسط من يأتون للمسجد المطلوب وإعادة صلاة الجمعة فيه ويقيموا فيه جمعة أخرى، حتى ولو لم يكن مسجدا كالمساكن الخاصة وكالحدائق والميادين العامة التي تسمح الجهات المسئولة عنها بإقامة الجمعة فيها اهـ.
وأما إذا لم توجد هذه الحاجة فقد سبق أن ذكرنا في السؤال الثالث أنه لا يجوز تعدد الجمعة في البلد الواحد لغير حاجة أو ضرورة، وهذا من شروط صحة صلاة الجمعة عند جمهور العلماء، فإذا فُقد وجب إعادتها ظهرا، كما تقدم في النقل عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في قوله: صرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام، وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا. اهـ.
وقد سبق لنا ذكر نقول عن أهل العلم من المذاهب الأربعة في ذلك، فراجع الفتوى رقم: 23537.
ومن أهل العلم الذين يمنعون تعدد الجمعة في البلد الواحد من يقول بعدم وجوب الإعادة عند حصول هذا التعدد في المساجد في عصرنا هذا، كالشيخ ابن عثيمين والشيخ عبد الرزاق عفيفي، عضو هيئة كبار العلماء ونائب رئيس اللجنة الدائمة للإفتاء. ولكن لم نجد من أهل العلم من نص على ذلك في حق من صلى الجمعة في البيت أو الأماكن المستأجرة القريبة من المساجد، كما ورد في السؤال. ولا شك أن هذا مما يستنكر.
والله أعلم.