عنوان الفتوى : الحكمة في عدم حصر الوحي لنبينا بالتكليم ، والحكمة من إرسال جبريل دون غيره
لماذا لم ينزل الله وحيَه على نبيِّه محمد ( ص ) مباشرة دون اللجوء إلى واسطة - وهو جبريل عليه السلام - ؟ وما الحكمة مِن أن جبريل كان مَن يُنزل الوحي عليه الصلاة والسلام ؟ .
الحمد لله
أولاً:
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف الصاد ، ولا بكلمة " صلعم " ، ومن كتب مثل هذا السؤال لا يعجزه كتابة الصلاة والسلام عليه كاملة .
وقد سبق بيان حكم كتابة هذين الاختصارين في جواب السؤال رقم ( 47976 ) ، فلينظر .
ثانياً:
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم طرق تبليغ رسله برسالاته وكلامه تعالى ، فكان منها : الوحي – وله أشكال متعددة – يقظة ومناماً ، والتكليم المباشر من وراء حجاب ، وعن طريق جبريل عليه السلام ، وقد سمَّى الله تعالى الطرق الثلاثة بـ " التكليم " ، فقال : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) الشورى/ 51 ، وهذا هو التكليم بمعناه العام ، وليس هو التكليم الخاص الذي خصَّ به بعض رسله ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة/ من الآية 253 .
وكل صور الوحي وأشكاله قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاءه الوحي يقظة ومناماً ، وكلمه الله في السماء في المعراج ، وأرسل إليه جبريل عليه السلام ، فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك ما لم يحصل لغيره من إخوانه الأنبياء ، بل إنه حتى التكليم الذي اشترك به مع أخيه موسى عليه السلام كان لنبينا المقام الرفيع فيه ؛ حيث حصل تكليم رب العالمين له في السماء ، فكان ما اختاره الله تعالى لنبيه عليه السلام أكمل وأفضل وأجل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وقد ذكر الله تعالى أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع :
الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء ، يَقَظَةً ومناماً ، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي .
والتكليم من وراءِ حجاب ، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيّاً .
والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ ، كما قال تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) 17 ، 18 ، أي : علينا أن نجمعَه في قلبك ، ثمَّ علينا أن نقرأه بلسانك ، وهذا على أظهر القولين ، وهو أن " قَرَأ " بالهمزة من الظهور والبيان ، وقولهم : مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلاَ جَزُوْرٍ قَطُّ ، أي : ما أَظهرتْه ، بخلاف " قَرَى يَقْرِيْ " فإنه من الجَمع ، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً ، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء .
فقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ) أي : قرأناه بواسطةِ جبريل ( فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) ، وهذا كقوله تعالى : ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ ) ، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته ، كقوله : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) ، فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم ، وهو تكليمُ الله لعبادِه ، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت : رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه .
" جامع المسائل " ( 5 / 284 ، 285 ) .
وقال – رحمه الله - :
وأحاديث المعراج وصعوده إلى ما فوق السموات وفرض الرب عليه الصلوات الخمس حينئذ ورؤيته لما رآه من الآيات والجنة والنار والملائكة والأنبياء في السموات والبيت المعمور وسدرة المنتهى وغير ذلك : معروف متواتر في الأحاديث ، وهذا النوع لم يكن لغيره من الأنبياء مثله ، يظهر به تحقيق قوله تعالى ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) فالدرجات التي رُفعها محمَّد ليلة المعراج ، وسيُرفعها في الآخرة في المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون : ليس لغيره مثله .
" الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح " ( 6 / 168 ، 169 ) .
ثالثاً:
أما الحكمة من الاصطفاء والاختيار – ومنه اصطفاء جبريل عليه السلام لإرساله بالوحي - : فإن ذلك من أفعال الله تعالى الدالة على علمه وعدله وحكمته .
والله سبحانه وتعالى يختار ما يشاء من الأشياء المختلفة ليميزها على غيرها ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) القصص/ 68 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
هذه الآيات – أي : الآية السابقة وما بعدها - فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات ، ونفوذ مشيئته بجميع البريات ، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه ، من الأشخاص ، والأوامر ، والأزمان ، والأماكن ، وأن أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيء .
" تفسير السعدي " ( ص 622 ) .
والله سبحانه وتعالى يصطفي ما يشاء من الأشياء المتشابهة ليميزها على غيرها ، قال تعالى : ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) الحج/ 75 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
جبريل رسولٌ ملَك ، ومحمَّدٌ رسولٌ بشر ، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ، ومن الناس ، فاصطفى لكلامه الرسول الملكي ، فنزل به على الرسول البشري الذي اصطفاه ، وقد أضافه إلى كلٍّ من الرسوليْن لأنه بلغه وأداه ؛ لا لأنه أنشأه وابتداه ، قال تعالى : ( إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين ) التكوير/ 19 ، 20.
" مجموع الفتاوى " ( 17 / 82 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله - :
وإذا تأملت أحوالَ هذا الخلقِ : رأيتَ هذا الاختيار والتخصيص فيه دالاًّ على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمالِ حكمته وعلمه وقدرته ، وأنه اللهُ الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلُق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبِّر كتدبيره ، فهذا الاختيارُ والتدبير والتخصيص المشهود : أثرُه في هذا العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته ، وأكبرِ شواهد وحدانيته ، وصفات كماله ، وصدقِ رسله .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 1 / 42 ) .
فاصطفى الله تعالى من الملائكة جبريل عليه السلام دون غيره لما فيه من صفات القوة ، والأمانة ، وغيرهما ، وقد علم الرب تعالى ذلك أزلاً ، فاصطفاه من أجل ذلك .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
ذواتُ ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها : مشتَمِلَة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها ، ولأجلها اصطفاها اللهُ ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفاتِ ، وخصها بالاختيار ، فهذا خلقُه ، وهذا اختياره ، ( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) القصص/ 67 .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 1 / 53 ) .
والله أعلم