أرشيف المقالات

تأملات في قوله تعالى: { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا... }

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
تأملات في قوله تعالى
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28]
 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أمام بعد:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 28-34 ].
 
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسًا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا حوله نساؤه، واجمًا ساكتًا، قال: فقال: لأقولنَّ شيئًا أُضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة، سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجَأت عُنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هُنَّ حَوْلِي - كَمَا تَرَى - يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ»، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28]، قال: فبدأ بعائشة، فقال: «يا عَائِشَةُ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَلا تَعْجَلِي فيه حتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ»، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الآيَةَ، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تُخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: «لا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ منهنَّ إلَّا أَخْبَرْتُهَا، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»[1].
 
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾، أنه لَما اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في الغيرة، وطلبن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلنَ في طلبهنَّ متفقات، وفي مرادهن متعنتات، فشقَّ ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا، فأراد الله أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويذهب عنهنَّ كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن، فقال: ﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: ليس لكنَّ في غيرها مطلب، وصرتنَّ تَرضينَ لوجودها وتغضبنَ لفقْدها، فليس لي فيكن أرب وحاجة، وأنتن بهذه الحال، ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ شيئًا مما عندي من الدنيا، ﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ ﴾؛ أي أُفارقكن، ﴿ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي.
 
﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ﴾؛ أي هذه الأشياء مرادكن وغاية مقصودكنَّ، وإذا حصل لَكُنَّ الله ورسوله والجنة لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويُسرها وعسرها، وقنعتنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تيسَّر، ولم تطلبن منه ما شق عليه ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
 
رتب الأجر على وصفهن بالإحسان؛ لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن مجرد ذلك لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا مع عدم الإحسان، فخيًّرهنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة كلهنَّ، لم يتخلف منهن واحدة، وفي هذا التخيير فوائد عديدة:
منها: الاعتناء برسوله صلى الله عليه وسلم، والغيرة عليه أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
 
ومنها: سلامته صلى الله عليه وسلم بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه إن شاء أعطى وإن شاء منع؛ قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾.
 
ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن من تؤثِر الدنيا على الله ورسوله والدار الآخرة عنها وعن مقارنتها.
 
ومنها: سلامة زوجاته عن الإثم والتعرض لسخط الله ورسوله، فحسم الله بهذا التخيير عنهن التسخط على الرسول صلى الله عليه وسلم الموجب لسخطه المسخط لربه الموجب لعقابه.
 
ومنها: إظهار رفعتهنَّ وعُلو درجتهن، وبيان علو هممهنَّ أن كان الله ورسوله والدار الآخرة مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها.
 
ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار للأمر المختار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يكن زوجاته في الدنيا والآخرة.
 
ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد الله أن تكون نساؤه كاملات، مكملات، طيبات، مطيبات، ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ [النور: 26].
 
ومنها: أن هذا التخيير داعٍ وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه وهمه وغمه.
 
ومنها: أن يكون اختيارهن هذا سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يكن بمرتبة ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [الأحزاب: 30]، لما اخترن الله ورسوله والدار الآخر، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن لو جرى منهن، ليزداد حذرهن وشكرهن الله تعالى، فجعل لمن أتى منهن بفاحشة ظاهرة لها العذاب ضعفين.
 
قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ﴾؛ أي تطيع الله ورسوله وتعمل صالحًا قليلًا أو كثيرًا، ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾؛ أي مثل ما تعطى غيرها مرتين، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾، وهي الجنة، فقنتن لله ورسوله، وعملن صالحًا، فعلم بذلك أجرهن.
 
قوله تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 32 - 34].
 
يقول تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ ﴾ خطاب لهن كلهن، ﴿ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ﴾، فإنكن بذلك تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها، ومقاصدها، فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾؛ أي في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون، فَتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع الذي في قلبه مرض: أي مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد ينتظر أدنى محرك يحركه؛ لأن قلبه غير صحيح، فإن القلب الصحيح ليس فيه شهوة لما حرم الله؛ فإن ذلك لا تكاد تُميله ولا تُحركه الأسباب، لصحة قلبه وسلامته من المرض؛ بخلاف مريض القلب الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد ويدعوه إلى الحرام يُجيب دعوته ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن الخضوع بالقول واللين فيه في الأصل مباح، ولكن لَمَّا كان وسيلة إلى المحرم منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ألا تُلين لهم القول.
 
ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما تُوهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]؛ أي غير غليظ ولا جاف، كما أنه ليس بلين خاضع، وتأمل كيف قال: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ ﴾، ولم يقل: فلا تَلِنَّ بالقول، وذلك لأن المنهي عنه القول اللين الذي فيه خضوع المرأة للرجل وانكسارها عنده، والخاضع هو الذي يُطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفُّع وقهر للخصم، فإن هذا لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح الله رسوله باللين، فقال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقال لموسى وهارون: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44].
 
ودل قوله: ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾، مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فليعرف أن ذلك مرض، فليجتهد في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطير، وسؤال الله العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.
 
قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾؛ أي اقررن فيها؛ لأنه أسلم وأحفظ، ﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ﴾؛ أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات كعادة أهل الجاهلية الأولى الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه، ولما أمرهن بالتقوى عمومًا وبجزئيات من التقوى نص عليها لحاجة النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصًا الصلاة والزكاة اللتان يحتاجهما ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات وأجل الطاعات، وفي الصلاة الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة الإحسان إلى العبيد.
 
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا، فقال: ﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ يدخل في طاعة الله ورسوله كل أمر أَمرا به أمر إيجاب أو استحباب، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ﴾ بأمركن بما أمركن به، ونهيكن عما نهاكن عنه؛ ﴿ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ﴾ أي: الأذى والشر والخبث ﴿ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾، حتى تكونوا طاهرين مطهرين؛ أي: فاحمدوا ربكم واشكروه على هذه الأوامر والنواهي التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد الله أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، وتتطهر أخلاقكم وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم.
 
ولما أمرهن بالعمل الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبيَّن لهن طريقه، فقال: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾، والمراد بآيات الله القرآن، والحكمة أسراره أو سنة رسوله، وأمرهن بذكره يشمل ذكر لفظه بتلاوته وذكر معناه بتدبره، والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحِكَمه، وذكر العمل به وتأويله.
 
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ يدرك سرائر الأمور وخفايا الصدور وخبايا السماوات والأرض والأعمال الظاهرة والخفية، فلطفه وخبرته تقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، وأن الله يجازي على تلك الأعمال، ومن معاني اللطيف أنه هو الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق ما لا يدريه، ويريه من الأسباب التي تكرهها النفوس، ما يكون ذلك طريقًا له إلى أعلى الدرجات وأرفع المنازل[2].
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] برقم 1478.


[2] تفسير ابن سعدي ص885- 887؛ بتصرف

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن