عنوان الفتوى : حكم وقوف الحجيج بعرفة في الثامن من ذي الحجة بالخطأ
كنت قد حججت عام 1428هـ حجة الإسلام، ولكن حدث الآتي: ـ دخلت مكة وأنا ألبس المخيط، لأنني لم أستطيع الحصول على تصريح وقد أطعمت 6 مساكين. - خالفت ولي الأمر بالحج دون تصريح. - تكلم علماء الفلك في هذا العام عن خطإ تقويم شهر ذي الحجة وأن السلطات السعودية أخطأت في التقويم وعليه، فإن يوم عرفة كان فلكيا اليوم 8 من ذي الحجة ولم يكون التاسع. - بعد الحج ارتكبت معاصي كثيرة لم أكن أرتكبها قبل الحج ـ وأسأل الله سبحانه وتعالى التوبة والمغفرة ـ وهذا يجعلني أجزم بعدم قبول تلك الحجة. أريد أن أستشيركم في الآتي: يسر الله لي أن أتقدم للحج هذا العام ـ 1430هـ، وأن يكون حجا رسميا, وكنت قد نويت أن أحج عن أبي المتوفى, مع العلم أنه حج حجة الإسلام منذ: 25 سنة. والآن أنا في حيرة شديدة: فهل أحج عن نفسي هذا العام حجة رسمية ـ لعل الله يتقبلها منى ويغفر لي ذنوبي؟ أم أحج عن أبي ـ رحمه الله؟ فأنا أشعر بتأنيب الضمير بعدم بره إذا لم أحج عنه.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما حجك بدون تصريح فإنه صحيح، وإن كان يجب عليك التوبة مما أقدمت عليه من المخالفة، وانظر الفتوى رقم: 102899.
وأما لبسك المخيط بعد إحرامك وتلبسك بالنسك فهو من محظورات الإحرام، وتجب فيه الفدية وهي على التخيير بين إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام أو ذبح شاة، فإذا كنت قد أطعمت في الحرم المساكين الستة ـ كل مسكين نصف صاع من طعام ـ فقد أديت ما وجب عليك ولم تعد ذمتك مشغولة بشيء.
وأما ما ذكرته من كلام علماء الفلك: فإنه لا اعتبار به، فإن المعتبر في دخول الشهر وخروجه هو الرؤية الشرعية، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته.
والمعتمد على الحساب في الهلال ـ كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين ـ فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب.
انتهى.
وعلى فرض أن الناس جميعا أخطأوا فوقفوا بعرفة يوم الثامن أو يوم العاشر، فإن حجهم يقع صحيحا ظاهرا وباطنا، ويجزيهم ذلك، وقد بين شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ هذه المسألة أتم بيان ونحن ننقل كلامه ليزول اللبس ويرتفع الإشكال، قال ـ رحمه الله: ولو قُدّر ثبوت تلك الرؤية، فإن في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون.
أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس.
رواه الترمذي.
وعلى هذا العملُ عند أئمة المسلمين كلهم، فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطئا أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطئا ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضا، وهو أحد القولين في مذهب مالك ومذهب أحمد وغيره، قالت عائشة ـ رضي الله عنها: إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس.
وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر، فقال تعالى: يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ {البقرة: 189}.
والهلال اسم لما يستهل به أي: يعلن به ويجهر به، فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا، وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة لظنهم أنه إذا طلع في السماء كانت تلك الليلة أول الشهر ـ سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا ـ وليس كذلك، بل ظهوره للناس واستهلالهم به لا بد منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون.
أي: هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم.
انتهى.
وبهذا تعلم أن حجك صحيح مسقط لفريضة الإسلام عنك، وأما ما ارتكبته من ذنوب بعد الحج: فالواجب عليك المبادرة بالتوبة إلى الله عز وجل منها والإقلاع عنها والندم على اقترافها، وليس لك أن تجزم بأن الله لم يتقبل حجتك، فإن هذا الأمر من الغيب الذي لا إحاطة للبشر به، وإنما عليك بالاجتهاد في الدعاء أن يتقبل الله منك يسير عملك وأن يتجاوز عن تفريطك وزللك، والله تعالى قد وسعت رحمته كل شيء، فأحسن ظنك به واسأله التوفيق والمعونة، وإذا من الله عليك بالحج ثانية، فإنه يجوز لك أن تحج عن أبيك ـ رحمه الله ـ وقد بينا مشروعية هبة ثواب القرب للموتى ـ ومنها الحج ـ في الفتوى رقم: 111133، ولو جعلت ثواب حجتك لنفسك واجتهدت في الدعاء لأبيك والاستغفار له كان ذلك أولى، فإنه سيأتي عليك حين تكون أحوج شيء إلى صالح عمل، وانظر الفتوى رقم: 128574.
وليس عدم حجك عن أبيك عقوقا منك له، فإن أولى ما نفعته به هو الدعاء له والاستغفار له والترحم عليه.
والله أعلم.