عنوان الفتوى : ملتزمة وحافظة لكتاب الله وشيء من معاناتها مع أهلها غير الملتزمين
أنا حافظة لكتاب الله ، وطالبة من طالبات العلم الشرعي ، وأهلي نقيض لما أنا فيه ، سؤالي هو : أني أشعر بالأمانة ، والمسؤولية ؛ لأن كل تصرفاتي تؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة لهم ، إني لا أحب التزين كثيراً ، وأحاول أن تكون زينتي بسيطة قدر الإمكان ، وهم العكس ، ودائماً ما يرون ذلك تشدداً ، وغلظة ، وأخشى أني قد أعطيتهم صورة سيئة عن قرآني الذي أحمل ، ولا أعلم أيحق لي التزين والتجمل لأجذبهم ولأخبرهم بأنه لا نقيض بين الإسلام والجمال ؟ هذا من جانب ، ومن جانب آخر : كثيراً ما ينقمون عليَّ قلة جلوسي معهم ، وعدم رغبتي في الخروج دائماً ، وعدم مشاركتي لهم في الأندية الرياضية ، مع العلم أني أجلس معهم وقتاً لا بأس به ، ولكن سبحان الله وكأن الشيطان يؤزهم عليَّ ليفسدوا عليَّ ، فما رأيكم ؟ أيعقل أن أكون معهم متى ما أرادوني ؛ لأكسبهم ، وأدعوهم ، أم أن الأولى هو استغلال وقتي فيما يعود عليَّ بالنفع الأكثر ؟ العيش في بيئة مناقضة للشخص صعب جدّاً ، ويتطلب ثباتاً ، وصبراً ، فأجزلوا لنا النصح ، جزاكم الله خيراً .
الحمد لله
أولاً :
نسأل الله تعالى أن يوفقك لما فيه رضاه ، وأن يثبتك على الحق .
المسلم المستقيم على أمر الله تعالى بين أهلٍ يخالفونه في توجهه ، ومنهجه : لا شك أنه يعاني من ذلك ، وهو يعيش متقلبا بين مواجع كثيرة ، فهو يحزن لما يراه من بُعدهم عن الاستقامة على شرع الله ، وهو يعاني من ضغطهم عليه لينصهر في بيئتهم ، ويسلك طرقهم في حياتهم ، وهو يحرص على سلوك طريقة في دعوتهم تجمع بين عدم التنازل عن شيء من دينه ، وبين تحبيبهم في الاستقامة ، وهذه الصعوبات والمواجع يعانيها المستقيم على أمر الله تعالى إن كان رجلاً ، أما إن كانت أنثى فلعل الأمر يكون أصعب ، لذا نوصيك بالثبات على الطاعة ، وكثرة الدعاء لك ، ولأهلك ، وليكن فيما تجدينه في كتاب الله الذي تحفظينه من قصص الأنبياء والمرسلين في قومهم ، والدعاة والمصلحين مع الناس : أسوة ، وسلوة ، أسوة تقتدين بهم في صبرهم ، وجلدهم ، وثباتهم على الحق ، وسلوة لأحزانك فيما ترينه من مخالفة أهلك للحق ، وعسى الله أن يهديهم ، ويوفقهم .
ثانياً :
الحكم على المستقيم على أمر الله أنه متشدد : لا ينبغي أن يكون عائقاً أمامه ، بل ولا ينبغي أن يعطيه وقتاً من يومه ليتأمله ، فالأوقات أثمن من أن تُصرف في تتبع الطعونات والأوصاف القبيحة التي تُلصق بمن استقام على طاعة الله ، فخروج المرأة من البيت ، واختلاطها بالرجال في الأسواق ، والأماكن العامة ، والنوادي الرياضية ، والمطاعم العائلية : كل ذلك فيه من المنكرات ، والموبقات ، والفتن والانحرافات ، وتضييع الأوقات ، ما لا يخفى على أحد ، فموافقة الأهل على رغبتهم ، والمشي وفق هواهم في هذه الأمور هو هدم لما تبنينه ، ونقض لما تعمرينه ، فاحذري من موافقتهم في ذلك ، ولو أدى ذلك لغضب مَنْ غضب ، ولو أدى ذلك لوصفك بما تكرهين ، وغالباً ما يستيقظ مثل هؤلاء عند صدمة ، أو مشكلة ، أو فتنة ، أو قصة وقعت يعلمون معها صحة الطريق الذي تسلكين ، وصواب المنهج الذي عليه تسيرين .
وانظري لمزيد بيان حول هذا : أجوبة الأسئلة : ( 6742 ) و ( 9460 ) و ( 9937 ) .
ثالثاً :
في الوقت نفسه ندعوكِ – وندعو المستقيمين على طاعة الله ممن حالهم كحالك – أن يحاولوا قدر استطاعتهم التقرب من أهليهم ، ولو بفعل ما تكرهه نفوسهم ، بشرط أن يكون من المباحات ، فالتزين – مثلاً – مباح إذا لم يكن من أجل رجل أجنبي يراه ، والأكل مع الأهل ، أو صلة الرحم معهم إذا لم يكن هناك محذور في الزيارة ، وغير ذلك مما أباحته الشريعة ، أو استحبته : لا مانع من أن يشارك الإخوة والأخوات الملتزمون أهليهم بها ، ولو كرهت نفوسهم مثل هذا ؛ لأن في فعل ذلك تقرباً محموداً لقلوب أولئك الأهل ، وفيه رفع التهمة عنهم بالتشدد ، ورفع التهمة عن دينهم واستقامتهم ، ومراعاة الأهل والناس فيما ليس فيه ترك واجب ، ولا فعل محرَّم : هدي نبوي ، وسنة شريفة ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( يَا عَائِشَةُ ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ : بَابًا شَرْقِيًّا ، وَبَابًا غَرْبِيًّا ، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ ) رواه البخاري ( 1509 ) ومسلم ( 1333 ) .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
فتَرَك صلى الله عليه وسلم نقضَ الكعبة ، وإدخال حِجر إسماعيل فيها : خشية الفتنة ، وهذا يدل على وجوب مراعاة المصالح العامة ، وتقديم المصلحة العليا ، وهي تأليف القلوب ، وتثبيتها على الإسلام على المصلحة التي هي أدنى منها ، وهي إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 6 / 345 ) .
وعليه : فما تجدينه في شرع الله حلالاً فعله ، وترين أنه مرغوب عند أهلك أن تفعليه : فافعليه ، واحتسبي فعله عنه الله إن كنت تكرهينه ، واقصدي بذلك أن تؤلفي قلوبهم ، وأن تقربيهم منك ؛ حتى يكون ذلك أدعى أن يقبلوا منك ويكفوا ألسنتهم عنك .
واحذري من فعل الحرام ، أو ترك الواجب ، فاحرصي على رضا ربك ولو أسخط ذلك أهلك وأقرباءك ، ولا تسخطي ربك حرصاً على رضاهم ، فعن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ) رواه الترمذي (2414) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ومما يجب أن يُعلم : أنه لا يسوغ في العقل ، ولا الدِّين : طلب رضا المخلوقين ، لوجهين : أحدهما : أن هذا غير ممكن ، كما قال الشافعي رضي الله عنه : " رضا الناس : غاية لا تُدرك ، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه ، ودع ما سواه ، ولا تعانه " .
والثاني : أنا مأمورون بأن نتحرى رضا الله ورسوله ، كما قال تعالى : (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، وعلينا أن نخاف الله ، فلا نخاف أحداً إلا الله ، كما قال تعالى : (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وقال : (فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، وقال : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) ، فعلينا أن نخاف الله ، ونتقيه ، في الناس ، فلا نظلمهم بقلوبنا ، ولا جوارحنا ، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا ، ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله به ورسوله خيفة منهم ، ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له كما ، كتبت عائشة إلى معاوية : (أما بعد : فإنه من التمس رضا الناس بسخط الله : سخِط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ، وعاد حامده من الناس ذامّاً ، ومَن التمس رضا الله بسخط الناس : رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس) ، فالمؤمن لا تكون فكرته وقصده إلا رضا ربه ، واجتناب سخطه ، والعاقبة له ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
" مجموع الفتاوى " ( 3 / 232 ، 233 ) .
والله أعلم