أرشيف المقالات

من وحي القلم في معجزة التشريع الإسلامي

مدة قراءة المادة : 33 دقائق .
من وحي القلم في معجزة التشريع الإسلامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، وبعد.
من أعظم نعم الله على عباده إرسال رسله وأنبيائه إليهم؛ فبهم يعرف الإنسان حقيقة نفسه وكنهها وما يعتريها من ضعف وقوة؛ وذلك بإدلاله على خالقه ومدبره؛ قيوم السماوات والأرض ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ فلولا الرسل؛ لاستقل الإنسان بعقله في معرفة عالم الغيب - بالإيمان أو الجحود - وعالم الشهادة في تدبير أمور حياته سواء تعلق بالدين أو الدنيا أو بالروح أو البدن؛ ولكان شأن العقل معها شأن من يدُلَّ الأعمى الطريق إلى الطبيب معالج الأسقام والعاهات؛ ثم يطلب الدال الأعمى بوجوب أخذ إرشاداته ونصائحه في الطب والعلاج؛ بدلًا من إرشادات الطبيب؛ بحجة أنه دله عليه؛ مع أن كليهما غير مستغنيان عن الطبيب في معالجة عللهما؛ فتبين أن إرسال الرسل من الضروريات التي يكمن عليها إقامة الحياة؛ ولكن لا بد لكل دعوى من حجة وبرهان؛ فكان من البراهين القاطعة على صدق دعوى الرسل بأنهم مصطفون من عند الله؛ المعجزات الإلهية التي منحها الله لرسله تصديقًا لهم؛ وإلزاما العباد بإقامة الحجة عليهم، ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾، [النساء: 165].
 
والمعجزة في اللغة: من العجز والضعف؛ ومعروف أن لغْيَ اللسان هي تعبير لما يكِنُّ في الإنسان من العوامل النفسية البشرية والطبيعة الخَلقية والخُلقية التي تنطق حاله بها؛ ومن جملة الحالات النفسية والطبيعية التي في الإنسان الضعف والعجز؛ فعبرت في اللغة العربية بهذه الحروف ع ج ز لما مسه في طياته من فقر ودقِعٍ نفسي وخلقي تجاه ما يضاده.
 
والتعريف الاصلاحي في تجمع معناه؛ مأتيٌ من المعنى اللغوي للكلمة الأصلية له؛ فالمعجزة النبوية هي ما يعجز الإنسان عن الإتيان بها حال حياته؛ فهي الأمر الخارق للعادة البشرية وحتى الجنية الاستطاعة عن الإتيان بها.
 
والغرض من المعجزة؛ تحدي الثقلين عن الإتيان بمثلها؛ مع إصدارها على أيدي الأنبياء والمرسلين؛ تصديقًا للدعوة النبوية في أنها رسالة ربانية أنزلت لأجل خلاصهم من الهلاك والضيق والفساد وإخراجهم من ظلمات الكفر والإلحاد إلى نور الإيمان واليقين برب العاملين ورسله المصطفين.
 
فالمعجزة تصديق للنبوة؛ وتحدي للبشرية الإتيان بمثلها؛ والتي تسلم لها المعارضة؟
والمعجزات تختلف باختلاف العوائد والأعراف البشرية؛ ولذلك فلكل نبي معجزته التي خرقت عادة البشرية والجنية في وقته وحسب طبيعة وعادة زمانه؛ فمعجزة هود هي عدم استطاعة أحد مسه بسوء؛ قال له قومه: ﴿ إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ﴾، [هود: 54-55]، وذلك فقًا لما كان عليه قومه من القوة والبأس والبطش، قال لهم هود: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾، [هود: 52]، وقال: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾، [الشعراء: 128-130].
 
ومعجزة صالح ناقته التي خرجت من الصخر تحلب لهم كل يوم؛ قال لهم نبيهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾، [هود: 64]، وكانوا متعايشين مع الجبال والصخور؛ عارفين قوتها وصلابتها ومناعتها؛ قال: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا * فَرِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾، [الشعراء: 146-150]؛ فأخرج الله لهم من صخوره معجزة من جنس آخر وهي الناقة؛ لعلهم يعتبرون ويعقلون ويعرفون قدرة الله في خلقه.
 
ومعجزة يوسف تأويل الرؤيا؛ لكي يخلص الناس من الهلاك في رؤيا ملك مصر، ويخلص الفتيين الذين دخلا معه السجن؛ من الكفر للذي صلب؛ ومن المعصية والجور للذي ظن أنه ناج منهما، قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ...
﴾.
 
ومعجزة موسى آياته التسع، قال تعالى: ﴿ وَلَقَد آتَينَا مُوسَى تِسعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسأَل بَنِي إِسرَائِيلَ إِذ جَاءهُم فَقَالَ لَهُ فِرعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسحُوراً ﴾، [الإسراء: 101]، ﴿ فَأَلقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعبَانٌ مُّبِينٌ ﴾، [الأعراف: 107]، ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الأعراف: 108]، ﴿ فَأَرسَلنَا عَلَيهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاستَكبَرُوا وَكَانُوا قَوماً مُّجرِمِينَ ﴾، [الأعراف: 133]، ﴿ وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ ﴾، [الأعراف:130]، ﴿ فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِّعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ ﴾، [الشعراء: 63]، ﴿ وَاحلُل عُقدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفقَهُوا قَولِي ﴾، [طه:27-28]، فمعجزاته التسع هي: جعل العصا ثعبانًا واليد أبيضًا يشع منه نور، وانفلاق البحر، وانبجاس الماء من الحجر، وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على فرعون وملأه بطغيانهم؟
 
وهذه المعجزات تحدى بها موسى فرعون وسحرته وقومه؛ خاصة بعصاه التي كان يلقيها فتصير ثعبانًا بحجمها وضخامتها؛ ومثل الجانّْ - وهي الحية الصغيرة - باهتزازها وسرعت حركتها؛ فكانت هذه المعجزة تلائم ما كانت عليه مصر من السحر حينها؛ فأتت لهم بها تشبه ما يقومون به من تقليب الحبال والعصي ثعابين، وهذا في الظاهر، فلما تجلى الحقيقة الباطنة لسحرة فرعون في عصاه؛ آمنوا به وخروا لربه سجدًا.
 
ومعجزة المسيح هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإخبارهم عما يدخرون ويأكلون في بيوتهم، وذلك لأنهم كانوا قد ضعف إيمانهم بالغيبيات؛ فكان يقينهم لا يتجاوز ما يحسونه من الأمور الظاهرة المادية؛ فأرسل الله رسوله المسيح وبمعجزات غيبية روحية كي يؤمنوا بالله وقدرته واليوم الآخر؛ كما أخبر تعالى عنه: ﴿ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، [آل عمران: 49].
 
وعلى إثرها أظهر الله آية أخرى في قصة أصحاب الكهف، وكيف أن الله أنامهم في الكهف 309 سنين قمرية؛ ثم بعثهم مرة أخرى، وأرسلهم إلى المدينة؛ لكي يجدد في القوم إيمانهم بعالم الغيب؟! وكان هذا بعد بعثة المسيح عليه السلام.
 
ومعجزات محمد عليه وعلى الأنبياء الصلاة والسلام؛ كثيرة وأعظمها؛ القرآن الكريم؛ المعجزة الخالدة بخلود العقل ووجوده؛ فهي تخاطب العقل واللب قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، [يوسف: 3]، ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾، [الملك: 10]، وما الإنسان إلا العقل واللسان.
 
والقرآن الكريم يحوي على معجزات كثيرة منها: 1- الإعجاز البياني اللغوي الذي أعجز قريش - وهم أساطين اللسان وصناديد البيان بين العرب - من الإتيان بمثله قال تعالى: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [الإسراء: 88]، وقال: ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾، [الطور: 34]، فلما صرخ عجزهم عن ذلك؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [هود: 13-14]، فلما على ضعفهم قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [ البقرة: 23-24].
فقطع دابرهم ونكس وجوههم وبهت ﴿ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
 
ومع ما يتضمن القرآن الكريم من الإعجاز البياني لقريش والعرب عن الإتيان بمثله؛ فإنه يشمل المعجزات الأخرى أيضًا؛ لأن تحدي القرآن للعرب عن الإتيان بسورة من مثله؛ وذلك فيما ينضوي وينطوي من معجزات؛ سواء كانت بيانية أو غيبية أو علمية أو تاريخية أو تشريعية أو غيرها؟
 
ومن أمثلة الإعجاز البياني في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ وَلَكُم في القِصَاصِ حياةٌ يا أُولِى الأَلْبَابِ لَعلَّكُم تَتَّقُون ﴾، ولما نزلت هذه الآية المبينة أن الحياة مكمن في القصاص؛ لأن به يردع المقدم لخرم مهج غيره بالفتك؛ فيحفظ نفسه ونفس الآخر بذلك؛ ومع أن هناك إهدار لبعض النفوس، ولكنها توفر للنفوس أجمع الحياة؛ وكذلك القصاص لا يخص القتل فقط؛ بل يشمل الدية والعفو بعد المقدرة أيضًا؛ فالحكم في الآية هو القصاص، والحكمة منه حفظ الحياة؛ وعلته القتل العمد العدوان بآلة يقتل منه عادة؛ وبتجلي المعجزة البيانية هذه؛ هجرت قريش كلمة كانت تفتخر بها، وتنقل على الألسن وتكتب بالطروس في القراطيس، وهي كلمة (القتل أنفى للقتل) - أي بقتل القاتل ينفى القتل ويعدم، أو بالقتل يأنف ويتبع الإنسان على نفسه القتل -؛ لما رأو من سلاسة معنى الآية وهي أن بالقصاص يتحقق الحياة؛ وجمال مبناها ولطافة لفظها، فـ (القصاص) رمز العدل والوفاء للمجنى عليه، (والحياة) هي التي بها ومن أجلها يحيى الإنسان حياة مادية ومعنوية روحية ونفسية؛ وهذه الكلمة تأخذ بكل شغاف القلب؛ لأنها تمد الإنسان الحياة نفسيًا ومعنويًا، فتتجلى الحياة المادية بها؛ وهذا في مقابل معنى كلمة، القتل أنفى للقتل؛ التي تشمئز منها النفوس وتفوح منها رائحة الهلاك والهدر والموت والفناء، وتظهر في طياتها تصور المنية وهي تنشب مخالبها في وجه الحياة فتلويها بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة؟
2.
الإعجاز العددي؛ الذي يبين أعداد الآيات والسور والأرقام لإظهار تناسق الروابط المعنوية المعجزة في القرآن والدالة عليها الأعداد العددي.
3.
الإعجاز العلمي؛ من ذكر شداد السماوات وما فيها من أنوار وضياء، ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾، [النبأ: 8-9]، والأرض وما فيها من طبقات، ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾، [الطلاق: 12]، وأسرار البحار وأمواجها وظلمات بواطنها، ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾، [النور: 40]، وظواهر ما في الجبال، ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ﴾، [فاطر: 27]، وقد جعلها للجبوب أوتادًا، ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 6]، والليل للإنسان بمثابة السكن والنهار للمعاش، ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا...
[النبأ: 7]، وحقائق الكون والإنسان والحشرات والجماد والحيوان، وغيرها من الآيات الدامغة التي تبرهن صدق القرآن ورسالة رسول الرحمن؟.
4.
الإعجاز التاريخي والغيبي؛ من ذكر تاريخ الأمم الغابرة وما اعترتها من أمور غيبية بينتها القرآن الكريم في قصص الأنبياء كنوح وهود وصالح وإبراهيم ويوسف وموسى وزكريا وعيسى، وفي سور عدة، وقصة يوسف خير دليل على الإعجاز الغيبي والتاريخي، وذلك فيما حدث له مع إخوته؛ إلى أن حل به إلى مصر؛ ثم بيان حقيقة المُلك في مصر، وأن حكامها كانوا ملوكًا وليسوا فراعنة، كما في عصر موسى عليهما السلام؛ بما يبين الفرق بين الحالتين الحالة الملوكية والحالة الفرعونية؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي...
[يوسف: 54]، وقال: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾، [الإسراء: 102]، وكأن انقلابًا حصل على الفراعنة قبل يوسف عليه السلام؛ من قبل مماليك غير أصليين من مصر ثم استرجع فراعنة مصر ملكهم بعد يوسف وقبل موسى، فهذا كله إعجاز قرآني تاريخي وغيبي؛ خرق العادة أن تأت بمثله من الدقة والتفصيل والإحاطة والبيان، ومنها الأمور الغيبية المستقبلية كفتح مكة؛ وانتصار الروم على الفرس بعد غلبة الفرس عليهم قبل الهجرة النبوية؛ والإخبار عن  مصير أبو لهب بعدم دخوله الإسلام وبقائه على الكفر؛ وصدق القول الحق بدخوله نارًا ذات لهب.
5.
الإعجاز التشريعي، والمقصود من المقال هذا بيان الإعجاز التشريعي الذي أتى به القران الحكيم، والإعجاز التشريعي الذي شمل جميع جوانب الحياة البشرية ككل؛ هو المقصود من إنزال القرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ...
﴾، ومن هنا للجنس وليس للتبعيض؛ أي من جنس القرآن، وقال: ﴿ أَلِم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ...
﴾، البقرة:1-2، ﴿ فِيْهِ هُدَىً ﴾، فما في القرآن كله شفاء ورحمة وهدى للناس إن طبقوها وعملوا بها، ولذلك ختم آية سورة الإسراء بـ ﴿ ...
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنين ﴾، وآية البقرة بـ ﴿ هُدَىً لِلْمُتَّقِين ﴾؛ فأول الشفاء من الأمراض والذي يتبعها الرحمة؛ الإيمان والتصديق بالعلاج؛ ومن ثم الالتزام بتشخيص الطبيب له، والإتقان في استعماله وفي أوقاته المحددة بدقة من غير زيادة ونقصان؛ كي يرجى البرء من الأمراض؛ وإلا فما  ﴿ يَزِيدُ الظَّالِمِيْنَ إلاَّ خَسَارًا ﴾، [الإسراء: 82].
 
والإعجاز التشريعي يشمل عالم الغيب والشهادة؛ فعالم الغيب؛ هو ما شرعه الله من العقيدة على الإيمان بأمور البرزخ والآخرة والروح، وكل ما غاب وخفي عن الحس والعقل، وعالم الشهادة؛ هو ما شرعه الله قواعد وأصول مهيمنة على جميع ما في عالم الشهود من جزئيات سواء دخلت في العبادات أو المعاملات، وسواء تعلقت بالفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الأمة الإسلامية أمة التوحيد أو الأمة المحمدية أمة الدعوة.
 
والإعجاز التشريعي معجز من حيث إحاطته بجميع جوانب الحياة البشرية؛ والذي خرق العادة في الأيدولوجيات والأفكار والدساتير والأديان البشرية جميعًا قديمًا وحديثًا أن تأتي بمثله؛ وحتى الأديان غير المحرفة قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لم تكن شرائعها كاملة كمال شريعة محمد الخاتمة بختم النبوة؛ وذلك من حيث علاقتها بالمعاملات والعبادات.
 
أما العقيدة من توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ فتدين بها الأديان الحقة جمعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].
 
فإقامة الدين هنا يقصد بها التوحيد وإخلاص العمل لله ونبذ الشرك والكفر، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر:2-3].
 
وتوحيد الله؛ يلزم منه الإيمان برسله واليوم الآخر وملائكته وكتبه وبالقدر خيره وشره؛ لأن معرفة الله وكمال صفاته وجلال أسمائه لا تعرف إلا عن طريق الرسل، ولا بد للرسل من كتب تبين فيها أسس التوحيد وسبل التجريد في عبادة الله والتفريد؛ والوحي المنزل على الأنبياء والرسل هو المؤيد لذلك والمبين له؛ ولكن عن طريق رسل الله الملائكة؛ فهم واسطة لمعرفة الله ودينه بين رسل الله الإنسيين وبين الله؛ ولا بد من يومٍ لتحقيق تجليات أسماء الله وصفاته فيه؛ كالسلام والمؤمن والغفار مع المؤمنين، والمهيمن والجبار والقهار على الطاغين أهل الجبروت، والعدل للقضاء بين العباد، وهكذا، والقدر خيره وشره هو مغزى التكليف والاختبار الذي ينبني عليهما أفعال المكلفين وجزائها عند الله يوم القيامة.
 
أما الشريعة المتعلقة بالمعاملات والعبادات؛ فكانت لأزمنة وأوقات وأماكن محددة وموقتة لا يجاوزها إلى أزمان وأوقات أخرى؛ خلا شريعة محمد المتمثلة بمعجزة التشريع القرآني بقواعده وكلياته الجامعة لكل تفاصيل الحياة وجزئياتها؛ وفي جميع الأزمنة والأماكن؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ...
[المائدة: 48].
 
والإعجاز التشريعي في القرآن يتميز بخصائص منها:
1.
أنه رباني المصدر؛ الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، فهو ليس من اختراع البشر؛ حتى يطرأ عليه الخلل وفقًا لقصور وتعليل العقل البشري، بل الكتاب بما ينضوي وينطوي من أمور شرعية لا ريب فيه هدى ورحمة للمؤمنين، أما صنائع الإنسان فهي مصنوعة مع تلازم النقص فيها.
2.
أنه ثابت قواعده وأصوله وأسسه؛ فلا تتغير ولا تتبدل ولا تخص قومًا دون قوم أو أمة دون أمة أو زمانًا دون زمان أو مكانًا دون مكان؛ وهي المتمثلة بالضروريات الخمس (حفظ الدين، النفس، النسل والذرية، العقل، المال)، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 12].
فحفظ الدين متضمن في قوله: ﴿ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ﴾ و﴿ لَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾، وحفظ المال في ﴿ وَلَا يَسْرِقْنَ ﴾، وحفظ النسل والذرية والعرض في ﴿ وَلَا يَزْنِينَ ﴾ و﴿ لَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ وحفظ النفوس في ﴿ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾، والعقل تابع للنفس.
3.
وبما أن القواعد العامة للتشريع الإسلامي تتمثل في الضروريات الخمس؛ فهي شاملة لجميع جوانب الحياة البشرية كما مر بيانه، فالإعجاز التشريعي منه ما يتعلق بالعبادات وهي الداخلة في حفظ الدين، ومنه ما يتعلق بالعادات المعاملات وهي داخلة في حفظ الضروريات الأخرى.
ولكل من هذه الضروريات حاجيات وتحسينيات مكملة لها؛ فضروريات الدين أركان الإسلام الخمس، وحاجياتها الرخص التي شرعها الشارع لأجل التخفيف ورفع الحرج على الأمة، كقصر الصلاة في السفر وجمعها في السفر وفي حالة الضيق في الحضر، وكذلك فطر الصوم في السفر وفي حالة المشقة الشديدة والجوع والعطش الهالكين.
 
وما يتعلق بضرورة النفس؛ وضع القصاص ردعًا لمن يريد الفتك بالمهج؛ وإباحة الميتة وقت الضرورة؛ وإنزال الحاجة العامة لنفوس الأمة منزلة الضرورة الخاصة للفرد، والعقل والنسل والمال؛ بجعل الحد لشارب الخمر ومرتكب الزني والسارق للمال والقاذف للمؤمنة؛ وذلك لأجل حفظ هذه الضروريات من الضياع.
 
والحاجيات المتعلقة بالنفس والعقل والنسل والمال، ما أباحه الله من التطيب بالطيبات من الأكل والشرب واللباس والمتاع والمسكن؛ وكذلك ما أباحه الشارع من البيوع (كبيع السلم والمساقات والمزارعة وبيع العرايا وعقد الاستصناع) والإجارة والنكاح وما حرمه كالتعامل بالربا والبيوع المحرمة، والتي تؤدي بالخلل إلى المال ونمائه وزيادته؟ وما فرضه الشارع من التعلم بالعلوم الشرعية وغيرها وطلبها والبحث عنها كي يقوي وينمي العقل والفكر بها.
 
والتحسينيات المتعلقة بالدين؛ تعظيم شعائر الإسلام بالمتعلقة بالصلاة التطيب بالطيب والتزين عند المساجد، ومنها زخرفة المساجد وتزيينها وإعلاء منابرها ومناراتها وقببها مما تظهر جمالها وبهائها؛ والتحسينيات المتعلقة بالصوم تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتجمل يوم العيد والتمظهر بنعم الله فيه؛ والحج بتقديم أحسن القرابين وأسمنها وعدم مس الطيب وتقليم الأظافر والقيام بعقد النكاح؛ إلى حين التحلل من الإحرام، أما الزكاة؛ فأن يتواضع الزاكي أثناء إعطاء الزكاة لأهله؛ والتبسم في وجهه، وإبداء الاهتمام به؛ وتقديم القريب من البعيد؛ لأنه أولى بالمعروف؟
 
وهناك أمور جزئية متممة للضروريات الخمس؛ يبين الإعجاز التشريع من خلالها؛ منها:
أ‌.
ما تتعلق بالأفراد بعضها مع بعض، والأسرة؛ من صدق الحديث والوفاء بالعهود والمواثيق، والاحترام والتقدير والتكريم والحب واللين، وأنه على الكبير الرحمة بالصغير، وعلى الصغير توقير الكبير، وعلى الزوج الإحسان والرحمة بالزوجة وعليها إطاعته في المعروف، وما بين الأستاذ والطالب من التعلم والتربية، وما على الرئيس للمرؤوس من الرحمة والرعاية والإعانة؛ والمرؤوس مع الرئيس من السمع والطاعة والإخلاص والنصح والتفاني، والأب والأم للولد بالتربية والإعانة والإعالة؛ والولد للأبوين بالتوقير والاحترام والطاعة والتقدير، وإكرام الجار للجار وإكرام الضيف والإحسان إلى الفقير من قبل الغني، والدعاء من الفقير للغني؛ ومعاونة الصحيح للسقيم وغيره؟
 
ب.
ما تتعلق بالمجتمع؛ من التواصل وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدق بالصدقات ودفع الزكوات، وبناء المؤسسات والمساجد والمدراس، وما يؤدي إلى تقوية العلاقات بين المجتمعات من قبل الأسر والأفراد والجماعات.
 
ج.
ما تتعلق بالدولة؛ من قواعد السلم والحرب والصلح والتجارة والاقتصاد والسياسة والحكم؛ وبيان السلطات الثلاث من سلطة التشريع والتنفيذ والقضاء؛ مع عدم تحديد تطبيق القواعد تلك بآليات محددة؛ وهذه القواعد والأصول سواء تعلقت بالأفراد أو الأسر أو المجتمعات أو الدولة إنما هي؛ لأجل ترتيبها وتنظيمها وتقويتها وتنميتها؛ وفق منظومة الضروريات الخمس (حفظ الدين: يدخل فيه الفكر والنظر، والنفس: يدخل فيه الاهتمام والطهور والقوة، والنسل: يدخل فيه العلاقات الأسرية والاجتماعية وما ينتابها من تنوع وتكثر وانتظام في عملية التنسل وفق النظر الشرعي، والعقل: يدخل فيه كذلك الفكر والنظر، والتمعن والتدبر والتخطيط، والمال: يدخل فيه الجانب الاقتصادي والمالي والتجاري والتنموي؛ وكل من هذه تتعلق بها الجوانب السياسية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والاقتصادية؛ ويشملها؛ قواعد العدل والمساوات والصدق والاحترام والبر والإحسان والإكرام والسلم والأمان والوفاء واللين والصراحة.
4.
ومع وحدة مصدر التشريع الإسلامي في القرآن الكريم؛ إلا أنه به تعددت مصادره؛ وهي: السنة النبوية، والإجماع، والقياس؛ فهذه الأدلة الثلاث؛ قد استندت حجيتها من القرآن الكريم.
 
فسند حجية السنة النبوية من قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾، [آل عمران: 31-32]، ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، [الحشر: 7].
 
وحجية الإجماع من قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
 
ومن السنة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" "يد الله مع الجماعة" "الجماعة رحمة والفرقة عذاب" "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" وهذه الأحاديث تدل بألفاظها المختلفة معنى واحدًا وهو أن الجماعة المؤمنة إذا اجتمعت على أمر شرعي فلا يكون ضلالًا بل رحمة، وأن الأمة إذا اجتمعت على شيء فاجتماعها إجماع يلزم اتباع ما ترتب عليها من أحكام، والمقصود هنا اجتماع علماء الأمة.
 
وسند حجية القياس من قوله تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ ﴾  [الحشر:2]، ﴿ إنَّ في ذَلِكَ لَعبْرةً لأُولِي الألْبَاب ﴾، والعبرة هي الاعتبار من السابق وما حل به من الضيم؛ كي لا يقع عليه ولا يلحقه إن عقل واعتبر لأن مادة الحلول والوقوع ممكنة فيهما؛ وكذلك عملية القياس هي اعتبار الآتي الجديد بالسابق من الدليل المنصوص عليه حالة اشتراكهما في العلة.
 
ومن السنة النبوية في حديث معاذ بن جبل، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قالَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ إنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
 
وهناك مصادر أخرى للتشريع الإسلامي، ولكن فقهاء المسلمين اختلفوا في الاحتجاج بها، منها:
أ‌.
قول الصحابي وفعله، إلا إذا كان في حكم المرفوع في قوله، بأن يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فرض رسول الله كذا؟.
 
ب‌.
سد الذرائع، وهو قطع المادة التي تؤول إل الحرام والمنكر.
 
ج‌.
الاستحسان، وهو تقديم قياس خفي على قياس جلي لدليل ومصلحة شرعية.
 
د‌.
الاستصحاب، وهو طلب البراءة الأصلية في الشيء وغالبها ذلك في الحل والحرمة.
 
هـ.
المصلحة المرسلة، هي غير المعتبرة بدليل شرعي جزئي؛ لا بالإعمال ولا بالإهمال.
 
و‌.
العرف؛ هو ما تعارف عليه الناس من عادة لا تعارض الأدلة الشرعية القطعية.
فهذه الأصول الشرعية هي أيضًا تسري في طياتها الأحكام الجزئية المتعلقة بأفعال المكلفين.
5.
والخاصية الأخرى للإعجاز التشريعي؛ أن قواعده وأصول وأسسه هي التي تتضمنه؛ وليست الجزئيات وتفاصيل الأفراد؛ وهذه من أخص خصائص التشريع الإسلامي؛ لأنه لو كان الإعجاز مكمنًا في الجزئيات المحددة والتفاصيل الموقتة؛ لانتهى بانتهاء أفول الجزئيات واستجداد أخرى مكانها؛ ولكان الحكم محصورًا على جزئيات متناهية بتناهي أعراف وعادات الناس المتغيرة والمختلفة والمنتهية؛ فتمثل الإعجاز التشريعي في قواعد وأسس - ثابتة وقائمة ومؤصلة - أحكامها تسري على جميع الجزئيات، وتهيمن على كل تفاصيل الحياة، في كل الأماكن والأوقات؛ قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾، [نحل: 89].
 
وفي الختام نضرب مثلًا على الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم، وذلك في سورة الفاتحة والبقرة والناس؛ ففي البقرة ورد في أول السورة ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، [البقرة:1-2]، في كل شيء؛ ومنه في التشريع الإسلام لا ريب أنه يشمل كل مناحي الحياة؛ وقد ورد في أربع أماكن منها؛ لفظ كتب أي فرض؛ وأتت بقواعد شرعية تسري نظام الحياة في نواحي عدة على منوالها.
 
ففي آية 178 يقول تعالى: ﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ..
﴾ وقال بعدها في آية179: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، ففي القصاص - المكتوب أي المفروض على الأمة العمل به - حياة للناس؛ وهذه قاعدة شرعية تحفظ بها إحدى الضروريات الخمس وهي النفس من القتل والهدر، وتتعلق بالقضاء الإسلامي وكيفية الحكم فيمن قتل الآخر قتل عمد عدوان.
 
وفي آية 180 يقول الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾، وهذه قاعدة شرعية أخرى تبين علاقة الفرد المسؤل بالآخر في ظل الأسرة المسلمة؛ ومع أنه لا وصية لوارث؛ ولكن هناك من العلماء من جعل الوصية الواجبة للمتضرر منه؛ كما إذا مات شخص وترك ابنًا وابن ابن مات أبوه قبل أبيه؛ فمن الفقهاء من جعل له الوصية الواجبة لابن الابن بشرط أن لا يتجاوز ثلث المال وفق حديث: "الثلث والثلث كثير".
 
وفي الآية 183 يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، وهذه قاعدة شرعية أخرى تتعلق بالعبادات وعلاقة الإنسان بربه وكيفية ارتقاء روحه إلى السمو بتلك العبادة.
 
وفي الآية 206 يقول تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، وهذه قاعدة شرعية أخرى تتعلق بالجهاد في سبيل الله؛ وكيفية العلاقة بين الدول في حال الاعتداء والحرب.
 
فهذه أربع قواعد تشريعية تحيط بأربع جوانب خطيرة ومهمة في حياة الناس: 1- جانب الروح وارتقائه والعلاقة بين الإنسان وربه، وذلك بعبادة الصيام.
2- جانب الإنسان وحفظ مهجه وعلاقته بالمجتمع؛ فيما يتعلق بحفظ النظام؛ وذلك بالقصاص.
3- جانب المسؤولية والقيام بالواجب تجاه الآخر، فيما يتعلق بنظام المال؛ وذلك بالوصية.
4- جانب حفظ الأمة كمجموع وحقيقة العلاقة بين الدول في حالة الحرب؛ وذلك بالجهاد والقتال في سبيل الله؛ إن لم تجنح الدولة المحاربة المعتدية للسلم.
 
أما سورة الفاتحة وسورة الناس؛ فيفهم التشريع الإسلامي من خلالهما؛ أنه يصلح للناس جميعًا؛ كما هو ظاهر في بداية سورة الحمد -والتي هي أول سورة في القرآن ترتيبًا لا تنزيلًا- في قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، وكذلك في سورة الناس -والتي هي آخر سورة في القرآن ترتيبًا- في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾، ففي أول سورة الحمد؛ حمد الله نفسه الذي هو رب العالمين جميعًا، ومن هذه العوالم عالم الإنس، وفي أول سورة الناس؛ أعاذ الله الناس بربهم من شر الناس جميعًا؛ ولم يخص لا في سورة الحمد، ولا في سورة الناس؛ المؤمنين منهم فقط؛ فدل أن التشريع الإسلامي يشمل في اتباعه جميع الناس؛ لأن رسالة الإسلام رسالة عالمية كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [الأعراف:158].
 
وهذا غيض من فيض التشريع الإسلامي في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
والحمد لله أولًا وآخرًا والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن