عنوان الفتوى : يكفي التائب أن يعلم محبة الله للتوبة وفرحه به
أتمنى أن أجد عندكم جوابا لسؤالي بدون تجريح أو إهانة، لأني سبق وسألت أكثر من شيخ وكان أسلوبهم معي قاسيا جدا: أنا فتاة أبلغ من العمر 25 سنة، مقصرة في ديني لم أصل في حياتي إلا عددا يكاد يعد علي الأصابع، فعلت كل المعاصي الكبيرة والصغيرة: زنيت، وسرقت، وكذبت، تاركة صلاتي، هاجرة للقرآن، لا أصوم ولا في أي رمضان من سنين عمري ال 25 صمت، وأصابني خوف شديد وندم عظيم لكن بعد فوات الأوان، خسرت شرفي، وأكلت المال الحرام ، والآن لا أعرف ماذا أفعل؟ لي أكثر من سنيتن وأنا لا أسمع الأغاني ولا أسعى إليها، ولا أسرق، وقدر الإمكان أحسن من سلوكي لكن صلاتي في 25 سنة. هل يجب أن أقضيها؟ انصحوني ماذا أفعل؟ أرجوكم أود أن ألتزم على قدر استطاعتي ولا يوجد لدي من ينصح، ولا أستطيح أن أفشي أسراري لأحد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمة التوبة، وأن يشرح صدرك ويهديك إلى سواء السبيل، فأقبلي ـ أختنا الكريمة ـ على ربك ولا تيأسي من روحه ولا تقنطي من رحمته، فإن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه. قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر : 53}.
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
وقد وعد الله تعالى من يقترف أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات، إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات. قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا. {الفرقان:68-71}.
فهنيئا للتائب الصادق الذي يُتبِع سيئاته بحسنات ماحية، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. {هود: 114}.
ويكفي التائب أن يعلم محبة الله للتوبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ. متفق عليه.
فينبغي لك أن تنشغلي بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا.
ولا شك ـ إن شاء الله ـ أنك إن استقمت على توبتك وبدلت سيئاتك بحسنات أن الله الكريم سيقبلك ويرحمك، قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأعراف: 153}.
فأقبلي على الله يقبل الله عليك، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. متفق عليه.
وقد سبق لنا بيان حقيقة التوبة وشروطها ودلائل قبولها، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 5450، 29785، 4603.
وراجعي لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 97196، 76092، 60222.
أما بالنسبة لما فاتك من صلاة مفروضة وصيام رمضان، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تارك الصلاة لا يكفر، وعليه فإن من ترك الصلاة متعمدا وجب عليه قضاؤها سواء قلت الصلوات المتروكة أو كثرت، وكذا القول في الصيام. وذهب بعضهم إلى تكفير التارك للصلاة ولم يفرقوا بين تاركها عمدا أو تكاسلا وبين جاحد وجوبها للأدلة العامة في ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر. رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. رواه مسلم.
وعلى هذا القول فإن من ترك الصلوات متعمدا وجب عليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا وإن يكثر من النوافل والطاعات والاستغفار، وليس عليه قضاء ما فاته من الصلوات وما ترك من صيام رمضان. ولا كفارة سوى التوبة النصوح، والندم والاستقامة ما بقي، وإن قضى تلك الصلوات الفائتة على أي نحو تيسر له بحسب استطاعته، سواء كان ذلك ليلا أو نهارا, مع مراعاة الترتيب بين الفوائت، وكذا لو صام ما فاته من شهور مضت مع إطعامه ثلاثين مسكينا مع قضاء كل شهر كفارة عن تأخير القضاء؛ خروجا من الخلاف فذلك الأولى، لأن القول بالقضاء هو قول أكثر أهل العلم. وراجعي في ذلك الفتاوى الآتية أرقامها: 5317، 3146 ،17940، 35136.
والله أعلم.