عنوان الفتوى : حكم إزالة أحجار الكعبة واستبدالها بحجارة جديدة
ذكر الشعراوي في إحدى حلقات تفسيره أن المقدس في الحرم مكان الكعبة وموقعها، وليس بناءها أو أحجارها، فلو افترضنا أن قمنا باستبدال أحجار الكعبة بأحجار جديدة فيظل للكعبة قداستها، سؤالي لو افترضنا أننا أزلنا أحجار الكعبة واستبدلناها بأحجار حديثة فهل يجوز ذلك وشكرا ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن مكان البيت ظل مقدسا من عهد آدم إلى عهد سيدنا إبراهيم عليهما السلام، فلما أمر الله إبراهيم ببناء الكعبة أراه مكان البيت، وقد بناه إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر من الله تعالى كما قال عز وجل: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {الحج: 26} وقال عز وجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {البقرة: 126} وقد جدد بناء الكعبة بعد ذلك مرات قبل البعثة وبعدها، وقد بنوها بما تيسر لهم من الحجارة، واحتفظوا بالحجر الأسود لخصوصيته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم. رواه الترمذي وصححه الألباني.
وأما ما سوى الحجر الأسود من الحجارة التي لا تصلح للبناء فلا حرج في استبدالها بغيرها، ففي صحيح البخاري عند ذكره لقصة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام للكعبة أنه صلى الله عليه وسلم قال:.. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ..
وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أنه ذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجرا فنزل جبريل بالحجر الأسود، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض، فلما جاء إسماعيل فرأى الحجر الأسود قال: من أين هذا؟ من جاءك به؟ قال إبراهيم: من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك....اهـ
وفي المسند عن أبي الطفيل في أثره الذي ذكر فيه بناء الكعبة في الجاهلية قال: فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعا... قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي. وقال الشيخ الألباني هذا سند صحيح رجاله كلهم رجال مسلم، وذكر أنه رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وروى عبدالرزاق عن معمر عن الزهري: أن قريشا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل ترفعه حتى كاد يشجر بينهم فقالوا تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فحكموه، فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر بسيد كل قبيلة فأعطاه بناحية الثوب، ثم ارتقى ورفعوا إليه الركن فكان هو يضعه....اهـ
وقد ذكر الحافظ في الفتح: أن ابن الزبير لما أراد بناء البيت عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت من الحجارة فبنوا به، فنظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبني به فأمر به أن يحفر له في جوف الكعبة، فيدفن واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر فلم يصيبوا شيئا حتى شق على ابن الزبير، ثم أدركوها بعد ما أمعنوا فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل فأنفضوا له أي حركوا تلك القواعد بالعتل فنفضت قواعد البيت ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض، فحمد الله وكبره، ثم أحضر الناس فأمر بوجوههم وأشرافهم فنزلوا حتى شاهدوا ما شاهدوه، ورأوا بنيانا متصلا فأشهدهم على ذلك....اهـ
فدل هذا على اهتمام ابن الزبير بحجارة الكعبة وعدم إهمالها، وأنه استبدل منها ما تكسر، ولم يعد يصلح للبناء بحجارة صالحة، وأمر بما بقي فدفن في جوف الكعبة، وبهذا يعلم أنه لا حرج في استبدال ما لا يصلح للبناء من الحجارة لو تصورنا أنه حصل خلل فيها. وأما تعمد إزالة بعضها ليستبدل بغيره من دون حاجة لذلك فلا نرى جوازه لما فيه من عدم تعظيم البيت فقد قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ. وقال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ {الحج: 32}.
وقد منع الإمام مالك المنصور من التغيير في الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم سدا للذريعة وحفاظا على مكانة البيت.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 30234، 58571، 7313، 98999.
والله أعلم.