أرشيف المقالات

جناية احمد أمين على الأدب العربي

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
8 للدكتور زكي مبارك - 18 - ترفق الأستاذ احمد أمين بالأدب العربي فقال: إنه يرى من الإنصاف أن يستثني أديبين أثنين (كان أدبهما أدباً تحليلياً واضحاً) وهما ابن الرومي وابن خلدون وكذلك انتهت دنيا الأدب العربي، الأدب الذي لم ينجب غير شاعر واحد وكاتب واحد في أمد طويل دام نحو خمسة عشر قرناً، وتعاونت في تكوينه أمم أسيوية وأفريقية وأوربية، واستطاع أن يؤثر في الآداب اللاتينية والعبرية والفارسية والتركية والهندية، وصار له في أكثر الجامعات الأوربية كرسي خاص احمد أمين يستثني ابن الرومي من بين الشعراء، ويستثني ابن خلدون من بين الكتاب لسبب آخر غير الإنصاف، فقد سمع أن العقاد وضع كتاباً عن ابن الرومي، وسمع أن طه حسين وضع كتاباً عن ابن خلدون، ومن الواجب عليه أن يعجب بالشاعر الذي أعجب به العقاد، والكاتب الذي أعجب به طه حسين وكيف أقفر الأدب العربي في تلك الآماد الطوال فلم ينبغ فيه غير أديبين أولهما شاعر، وثانيهما كاتب؟ إن احمد أمين لو حكم بأن مدينة واحدة مثل القاهرة أو دمشق أو بغداد لم تنجب في جيل واحد غير أديبين أثنين لكان من المسرفين، فكيف وهو يكيل الأحكام الأدبية بأوسع المكاييل فيحكم بأن الأدب العربي في جميع عصوره، وفيما انتظم من أمم شرقية وغربية لم ينجب غير أديبين أثنين؟ قد يقول أنه يقصد الأدب الذي يقوم على التحليل والاستقصاء إن قال ذلك فنحن ندعوه إلى دراسة الأدب العربي من جديد.
فالطريقة التحليلية عرفها شعراء العرب منذ أقدم العهود وعليه أن يرجع إلى معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، وعينية أبي سويد وتائية كُثيّر، ولامية الكميت، وتائية دعبل، ودالية مسلم الواقع أن الشعر العربي تغلب عليه النزعة التحليلية في أكثر ما تعرض له من مقاصد وأغراض، وانظروا كيف يحلل سعيد ابن حميد فكرة النهي عن العتاب: أقلل عتابك فالبقاء قليلُ ...
والدهر يعدِل تارة ويميلُ لم أبك من زمنٍ ذممتُ صروفهُ ...
إلا بكيتُ عليه حين يزولُ ولكل نائبةٍ ألمَّتْ مدةٌ ...
ولكل حال أقبلت تحويلُ والمنتمون إلى الأخاء جماعةٌ ...
إن حُصِّلوا أفناهم التحصيل فلئن سبقتُ لتبكينَّ بحسرة ...
وليكثرنَّ عليَّ منك عويل ولتُفجعنّ بمخلص لك وامق ...
حبل الوفاء بحبله موصول ولئن - سبقتَ ولا سبقتَ - ليمضينْ ...
من لا يشاكله لديّ خليل وليذهبنّ بهاءُ كل مروءة ...
وليفقدنّ جمالها المأهول وأراك تكلَف بالعتاب وودُّنا ...
باقٍ عليه من الوفاء دليل ولعل أيام الحياة قصيرةٌ ...
فعلام يكثر عتبنا ويطول فالشاعر في هذه القصيدة يحلل ويعلل ويتناول موضوعه تناول من يدرك ما فيه من كليات وجزئيات، ومازال ينتقل من العموم إلى الخصوص حتى وصل في تصوير معناه إلى ما يريد ولننظر كيف يقول الشريف الرضي في استبقاء الصديق: وكم صاحبٍ كالرمح زاغت كعوبه ...
أبى بعد طول الفخر أن يتقوما تقبلتُ منه ظاهراً متبلِّجاً ...
وأدمج دوني باطناً متجهِّماً فأبدى كروض الحَزن رفَّت فروعه ...
وأضمر كالليل الحذاريّ مظلما ولو أنني كشَّفته عن ضميره ...
أقمت على ما بيننا اليوم مأتما فلا باسطاً بالسوء إن نالني يداً ...
ولا فاغراً بالذم إن رابني فما كعضو رمت فيه الليالي بقادح ...
ومن حمل العضو الأليم تألما إذا أمر الطب اللبيب بقطعه ...
أقول عسى ضنَّاً به ولعلما صبرتُ على إيلامه خوف نقصه ...
ومن لام من لا يرعوي كان ألوما هي الكفّ مضًّ تركُها بعد دائها ...
وإن قُطِعت شانت ذراعاً ومعصما أراك على قلبي وإن كنت عاصياً ...
أعزّ من القلب المطيع وأكرما حملتك حمل العين لجّ بها القذى ...
فلا تنجلي يوماً ولا تبلغ العمى دع المرَء مطوياً على ما ذممته ...
ولا تنشر الداء العضال فتندما إذا العضو لم يؤْلمك إلا قطَعته ...
على مضض لم تبق لحماً ولا دما ومن لم يوطّن للصغير من الأذى ...
تعرض أن يلقى أجلّ وأعظما فما رأيكم في هذا القصيد الجميل؟ ألا ترون الشاعر ينقل الفكرة من وضع إلى وضع، ويصنع بها ما يصنع المصور الذي يراعي دقائق المعاني.

وهو يضع اللوحة الفنية؟.
إن الشاعر في هذه القصيدة أمامه غرض واضح الرسوم، فهو يحلل ويعلل ليصل إلى أبعد ما يريد من الاستقصاء! أليس هذا هو التحليل الذي يقصد إليه احمد أمين؟ وما رأيكم في قول الطغرائي وهو يحاور الحمامة الباكية: أيكيةٌ صدحتْ شجواً على فنَن ...
فأشعلت ما خبا من نار أجفاني ناحتْ وما فقدت إلفاً ولا فُجعت ...
فذكّرتنيَ أوطاري وأوطاني طليقةٌ من إسار الهمّ ناعمةٌ ...
أضحت تجدد وجد الموثَق العاني تشبهت بيَ في وجدي وفي طربي ...
هيهات ما نحن في الحالين سيّان ما في حشاها ولا في جفنها أثرٌ ...
من نار قلبي ولا من ماء أجفانِي يا ربة البانة الغنّاء تحضنها ...
خضراءُ تلتف أغصاناً بأغصان إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ...
ناءٍ عن الأهل ممنُوٍّ بهجران فقارضِيني إذا ما اعتادني طربٌ ...
وجداً بوجد وسلواناً بسلوان أو لا فقصرَك حتى أستعين بمن ...
يعنيه شأني ويأسو كلْم أحزاني ما أنت مني ولا يَعنيك ما أخذتْ ...
مني الهموم ولا تدرين ما شاني كِلي إلى الغيم إسعادي فإن لهُ ...
دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني فهل ترون هذه القصيدة من (الأدب التركيبي)، وهو لفظ ثقيل اخترعه أحمد أمين؟ أم ترونها قصيدة تقوم على تحليل المعاني ليخلق منها الشاعر صورة شعرية؟ وانظروا قول ديك الجن وقد قتل معشوقته بيديه: يا طلعةً طلع الحِمام عليها ...
فجَنى لها ثمر الردى بيديها حكَّمت سيفي في مجال خناقها ...
ومدامعي تجري على خديها روّيتُ من دمها الثرى ولطالما ...
روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها فَوحقِّ نعليْها وما وطئ الثرى ...
شيءٌ أعزُّ عليّ من نعليها ما كان قتليها لأني لم أكن ...
أبكي إذا سقط الذباب عليها لكن بخلتُ على الوجود بحسنها ...
وأنِفتُ من نظر العيون إليها فقد شرح الشاعر فكرته أتم الشرح، وصورها أكمل التصوير.
وهل وصلت إلى احمد أمين أخبار تلك الوصية الرائعة التي بعث بها العباس بن الأحنف إلى حجاج البيت الحرام، وقد توقع أن يمروا بدار هواه انظروا إلى ذلك العليل، وقد تمرد الداء، وتعذر الشفاء، وكلما عصر الماء في فيه مجه، كما يصنع الطفل الوليد.

وقد ذهبت العلة بجمال نظراته، وبريق بسماته، وإن نودي لم يجب بغير الأنين.

انظروا إليه! وقد تمنى جرعة مزجت بريق حبيبته يحملها الحجاج في زجاجة، ولو أمكن أن تنقل النظرة لرجاهم أن يحملوا إليه نظرة، ولو خلق (الحاكي) في ذلك الحين لرجاهم أن ينقلوا إليه نغمة من نغماتها العذاب، ولو مهر المصورون حينذاك لكلفهم أن يصوروا مشيتها في الضحى والأصيل.

انظروا إليه وهو يرجوهم أن يتعللوا عند أهله، فيذكروا أن تلك الجرعة العذبة إنما هي من ماء زمزم.

انظروا إليه وقد أوصاهم أن يرشوا ريق من يهوى على وجهه، فإن صادفوه ميتاً فليرشوه على قبره.
انظروا كيف يقول: أزوَّار بيت الله مُرُّوا بيثربٍ ...
لحاجة مبتول الفؤاد كئيب وقولوا لهم يا أهل يثرب أسعدوا ...
على جَلَب للحادثات جليب فإنا تركنا بالعراق أخاً هوىً ...
تنشّب رهناً في حبال شعوب به سقَمٌ أعيا المداوين علمه ...
سوى ظنهم من مخطئ ومصيب إذا ما عصرنا الماء في فيه مجهٌ ...
وإن نحن نادينا فغير مجيب خذوا لي منها جرعة في زجاجة ...
ألا إنها لو تعلمون طبيبي وسيروا فإن أدركتُم بي حُشاشةً ...
لها في نواحي الصدر وَجْس دبيب فرشوا على وجهي أفق من بليتي ...
يثيبكُم ذو العرش خير مثيب فإن قال أهلي ما الذي جئتم به ...
وقد يحسن التعليل كل أريب فقولوا لهم جئناه من ماء زمزم ...
لنشفيه من دائه بذَنوب وإن أنتُم جئتم وقد حيل بينكم ...
وبيني بيوم للمنون عصيب وصرت من الدنيا إلى قعر حفرة ...
حليف صفيح مطبق وكثيب فرشوا على قبري من الماء واندبوا ...
قتيل كَعابٍ لا قتيل حروب فهذا الشاعر قد قص قصة بلواه بأسلوب تحليلي رائع لا أدري كيف ينكره احمد أمين وما رأيكم فيما قال كثير في السخرية من عهود النساء: ألا إنما ليلى عصى خيزرانة ...
إذا غمزوها بالأكفّ تلين تمتع بها ما ساعفتك ولا يكن ...
عليك شجاً في الحلق حين تبين وإن هي أعطتك الليان فإنها ...
لآخر من خلاتها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ...
فليس لمخضوب البنان يمين وما حاجتنا إلى تحليل هذا المعنى وقد وفاه في بيت واحد من يقول: فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ...
سجية نفْس، كل غانية هندُ إن احمد أمين ينتظر شعراء يحللون، فهل أتاه حديث أبي العتاهية في الزهديات، وحديث أبي نؤاس في الخمريات، وحديث الشريف الرضي في الحجازيات، وحديث الكميت في الهاشميات، وحديث الأبيوردي في النجديات، وحديث البحتري في طيف الخيال، وحديث العباس بن الأحنف في الكتمان؟ وهل عنده علم بوصف الربيع في شعر أبي تمام؟ وهل سمع بأشعار ابن زيدون في الحنين؟ وقل قرأ قصائد ابن خفاجة وا بن حمديس؟ وهل فتح الله عليه فنظر بكاء الرندي يوم سقوط الأندلس؟ وهل قرأ فائية ابن الفارض؟ وهل اهتدى إلى حائية ابن النحاس الذي يقول: كم أداوي القلب! قلتْ حيلتي ...
كلما داويت جرحاً سال جرح وهل عرف مصير أشعار بديع الزمان الذي يقول: رأيت الناس خدَّاعاً ...
إلى جانب خدَّاعِ يعيثون مع الذئب ...
ويبكون مع الراعي وهل قرأ قصيدة أبي تمام يوم فتح عمورية؟ وهل عرف روميات أبي فراس؟ وهل شهد موكب المعاني في مقصورة ابن دريد؟ وهل درس رائية أبي صخر وعينية أبي ذؤيب؟ احب أن أعرف أين مكانك بين أدباء اللغة العربية، يا صديقي؟ أحب أن أعرف أتجدّ في دعواك أم تكون من الهازلين؟ اقسم بالله وبالشرف أني لفي عجب من غفلة الأستاذ احمد أمين عن ذخائر الأدب العربي، مع أنه أستاذ مسئول يتصدر لتدريس الأدب في أكبر معهد من معاهدنا الأدبية ويزيد في الأسف أنه لم يكن كذلك فيما كنا نعرف من شمائله الذاتية، فقد استطاع أن يظفر بثقة ناس من كبار الأدباء منهم لطفي السيد وهيكل وطه حسين والمازني والعقاد والزيات والبشري، وسمعنا ثناء عليه في بيئات تزن أقدار الرجال، فمن أين وصل إليه مرض الحذلقة الذي كاد يضيفه إلى أدعياء الأدب والبيان؟ أتريدون الحق؟ الحق أن احمد أمين لم يوفق إلى الإجادة إلا في الموضوعات التي سار فيها على سنن مسلوك مهده العلماء من قبل فكتاب (الأخلاق) له مصدر معروف، فهو في جملته وتفصيله وأصوله وفروعه تلخيص لأي كتاب أوربي في الأخلاق، ولو شئت لسقت الأدلة والبراهين وفجر الإسلام وضحى الإسلام لهما أصول من أبحاث المستشرقين عن المدنية الإسلامية، وفيهما توجيهات للدكتور طه حسين سأكشف أسرارها حين أشاء، وفيهما سرقات في شئون اجتماعية ونحوية، ولو شئت لقلت إنه نهب بعض آراء الأستاذ فلان، وهو يعرف من أعني، وسيعرف كيف نجازيه بعد حين بقي أحمد أمين (الأديب) الذي ينقل عن العقل والروح فهل قرأتم له مقالة واحدة تشهد بأن له مواهب فيها أصالة وعمق. وكيف يصح ذلك، وهو يرى أن الأدب العربي لم ينبغ فيه غير شاعر واحد؟ ومن هو الشاعر؟ هو ابن الرومي، وإنما نص عليه بالذات، ليصح له اتهام الأرومة العربية بالفقر والإجداب، فقد كان المازني كتب منذ أعوام أبحاثاً عن ابن الرومي، وقرر في تلك الأبحاث أن ابن الرومي ورث طريقة التحليل عن أجداده الأبعدين من اليونان ولست بصدد الرد على المازني، الأديب العظيم، حتى ابحث من أين أخذ هذا الرأي، وإنما يحق لي أن أسأل: هل كان ابن الرومي أول شاعر عربي له أسلاف من اليونان؟ ومن هو الجد اليوناني لطرفة بن العبد، وقد وصف ناقته في المعلقة وصفاً هو النهاية في التحليل والاستقصاء؟ ومن هو الجد اليوناني لعمر بن أبي ربيعة وأشعاره تقوم على أساس من الحوار والتحليل والتمثيل؟ ومن هو الجد اليوناني للشاعر لبيد وفي معلقته تحليل دقيق؟ ومن هو الجد اليوناني للشريف الرضي وفي حجازياته أوصاف وتحليلات لم يهتد إلى مثلها سدنة الهياكل اليونانية؟ وما رأي الأستاذ أحمد أمين في أبي العلاء صاحب اللزوميات وصاحب رسالة الغفران؟ ألا يرى أن أبا العلاء كان من الشعراء الذين يجيدون تحليل المعاني؟ إن أبا العلاء قضى الشطر المثمر من عمره، وهو يحاور نفسه ودنياه، وقد وصل في التحليل والاستقصاء إلى أبعد الحدود، برغم المآخذ النفسية التي قيدناها عليه في كتاب (وحي بغداد) فهو عندنا لا يقل عظمة في تحليلاته ومحاوراته عن أكبر شاعر يبرع في الحوار والتحليل. أفلا يتفضل الأستاذ أحمد أمين بالاعتراف بمكانة أبي العلاء بين أقطاب الشعراء والمفكرين، فيضيفه إلى ابن الرومي وابن خلدون؟! يظهر أن الأستاذ أحمد أمين نسى أن أبا العلاء شغل الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين، فنشر الأول كتاباً عن أبي العلاء ونشر الثاني كتابين! يظهر أنه نسي ذلك، وما أنساه إلا الشيطان، ولولا ذلك لاعترف بمكانة أبي العلاء رعاية للعقاد وطه حسين، إن عزت عليه رعاية الحق! وأرجع فأقول: إن من التجني على شعراء العرب أن نقول بحرمانهم من النزعة التحليلية، فهم في أغلب الأحوال يهتمون بتصوير المعاني، ويشعرون السامع والقارئ بأنهم يحاورون العواطف والقلوب والعقول، وإليكم قول تميم بن جميل وهو يرعد من خوف الموت بحضرة المعتصم: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ...
يلاحظني من حيثما أتلفتُ وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ...
وأي امرئ مما قضى الله يفلت وأيُّ أمريء يدلي بعذر وحجة ...
وسيف المنايا بين عينيه مصلت يعز على الأوس بن تغلب موقف ...
يُسلُّ عليّ السيف فيه وأسكت وما حَزِني أني أموت، وإنني ...
لأعلم أن الموت شيءٌ مؤقت ولكن خلفي صبيةً قد تركتهم ...
وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أُنعى إليهم ...
وقد خمّشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بنعمة ...
أذود الردى عنهم، وإن متُّ مُوِّتوا فكم قائل لا أبعد الله داره ...
وآخر جذلان يُسرُّ ويشمت أليس هذا الشعر قائماً على الحوار والتحليل؟؟ وما رأيكم في قول ابن الزيات، وقد ماتت زوجته وتركت له طفلاً يؤرقه بكاؤه في هجعات الليل: أَلاَ من رأى الطفل المفارق أمه ...
بُعَيْد الكرى عيناه تبتدرانِ رأى كل أُمّ وابنها غير أمه ...
يبيتان تحت الليل ينتجيان وبات وحيداً في الفراش تحثهُ ...
بلابل قلب دائم الخفقان ألا إنَ سجْلاً واحداً قد أرَقتهُ ...
من الدمع أو سجلين قد شفياني فلا تَلْحيانِي إن بكيتُ فإنما ...
أداوي بهذا الدمع ما تريان وإن مكاناً في الثرى خُطَّ لحدهُ ...
لمن كان في قلبي بكل مكان أحقُّ مكان بالزيارة والهوى ...
فهل أنتما إن عُجْتُ منتظران فهبني عزمتُ الصبر منها لأنني ...
جليدٌ فمن بالصبر لابن ثمان ضعيف القُوَى لا يعرف الأجر حسبةً ...
ولا يأتسي بالناس في الحدثان ألاَ من أمنِّيه المنى وأَعدّهُ ...
لعثرة أيامي وصرف زمانِي ألاَ من إذا ما جئت أكرم مجلسي ...
وإن غبتُ عنه حاطني ورعاني فلم أر كالأقدار كيف يصبنني ...
ولا مثل هذا الدهر كيف رماني فهذه قطعة تحليلية رائعة، وقد يلاحظ بعض القراء أن الصورة الشعرية في هذه القصيدة متنافرة الأجزاء، ولكن لا بأس فهذه القصيدة قد ضاعت أصولها مع الأسف، ولم يبقى منها غير هذه الأبيات وهي مما تخيره ابن رشيق.
وقد تعبت في البحث عن أصل هذه القصيدة واستعنت بالأستاذ الشيخ محمد الخضري بك مهذب الأغاني فلم أصل إلى ما أريد، ولكن هذه البقية الباقية من تلك القصيدة تشهد بقدرة ابن الزيات على تحليل المعاني والأغراض أما بعد فأنتم تعرفون أن توضيح الواضحات من المشكلات؛ فالعرب في أكثر أشعارهم قد تفوقوا في عرض المعاني والمناظر والمشاهد، ولهم في تصوير الطبائع والشمائل قدرة لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر أو حقود وليس من الحتم أن يسلكوا جميعاً مسالك ابن الرومي أو أبي العلاء، فلكل شاعر مذهب في الأوصاف والتعابير، واختلافهم في مذاهبهم ومناحيهم ومراميهم هو الشاهد على ما يملكون من الأصالة والذاتية وما كان ابن الرومي أكبر شاعر عرفه العرب، كما توهم احمد أمين، وقد صارحت الأستاذ العقاد بأني أرى الشريف الرضي أشعر من ابن الرومي فلم ينكر ذلك، واكتفي بأن يقول إن مزية ابن الرومي عنده هي التفوق في وصف وهذا حق، فمزية ابن الرومي هي الحرص على درس أهواء الناس، وهي مزية شاركه فيها أبو العلاء وإذا كان ابن الرومي قد أفلح في تصوير نحائز الخلق فهو مع ذلك لم يصل في شعره إلى الرنة الموسيقية التي كان يتفرد بها البحتري، ولم يصل في الصنعة إلى منزلة أبي تمام أو مسلم بن الوليد، ولم يحس الأنس بالحياة على نحو ما أحس ابن خفاجة أو ابن زيدون أو أبو نؤاس ومن هنا نفهم أن للشعراء رسالات مختلفات، فعمر بن أبي ربيعه في بابه أشعر من ابن الرومي في بابه، وابن الرومي في بابه أشعر من ابن أبي ربيعه في بابه.
والناقد الضيق الذهن هو الذي يضع للشعر غاية واحدة يحاكم غليها الشعراء ومحاسن الأدب العربي ترجع إلى هذا التنوع الطريف، فليس عندنا شاعر يغني عن شاعر، وإنما هم اخوة مختلفون في المذاهب والأغراض، ومن اختلاف الألوان التي قدموها تتم الصورة الكاملة للعبقرية العربية ثم ماذا؟ ثم يقول أحمد أمين: إن الأدب العربي ليس فيه إلا كاتب واحد يجيد التحليل هو ابن خلدون وسنرى في المقال المقبل خطأ ما ادعاه هذا الزميل مع الدعاء له ولنا بالهداية والتوفيق، وإنا أو إياه لعلى هدى أو في ضلال مبين، والله المستعان على حيرة الفكر في أهل هذا الزمان (للحديث شجون) زكي مبارك

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣