أرشيف المقالات

رسَالة النقد

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 6 - في سبيل العربية كتاب البخلاء للأستاذ محمود مصطفى هذا هو المقال السادس في نقد عمل الأستاذين الكريمين العوامري بك والجارم بك في شرحهما لكتاب البخلاء للجاحظ.
وما ندري هل بلغنا رضاهما في هذا العمل، وقد خدمنا به الكتاب خدمة إذا أضافاها إلى خدمتهما له خرج الكتاب نافعاً مرجو الفائدة؟ قد كان الرضا منهما هو الأشبه بخلقهما والأولى بحرصهما على الحقيقة، ولكني لا أسمع إلا حكاية امتعاض ولوم، وما أظن إلا أن القارئ طالب فائدة؛ فليس يهمه أن ننث عتابنا ومكثر اعتذارنا بين يديه، فلنمض فيما نحن فيه مستعينين الله أن ننتهي من نقدنا في هذا المقال إن استطعنا حتى نريح ونستريح في ص 115 يقول الجاحظ في تصوير جشع الحزامي: (إنه لو أعطى أفاعي سجستان، وثعابين مصر، وحيات الأهواز لأخذها) ويعلق الشارحان على الحيات والأفاعي والثعابين تعليقاً ينطق بأن الحيات هي الثعابين أو الأفاعي، وأن الثعابين هي الحيات أو الأفاعي، وأن الأفاعي هي الثعابين أو الحيات.
وللشارحين بعض العذر في ذلك، فإن كتب اللغة يكثر فيها ذلك النوع من الإحالة في التعاريف، ولكنه عيب يجب ألا نقره نحن الذين سيكون على يدنا إصلاح كتب اللغة وتلافي عيوبها إن الذي يحاول أن يتخلص من ذلك العيب يجد في كتب اللغة نفسها المخلص منه.
ففي المقام نفسه الذي يقول فيه صاحب القاموس: الحية (م) أي معروف نجد كتباً أخرى ومواضع من القاموس نفسه يمكن أن نستخلص من ثناياها فروقاً تجزئنا أو تنجينا من التهافت ذلك أننا نرى في القاموس المحيط: الثعبان: الحية الطويلة الضخمة، وفي المصباح: الأفعى: الحية الرقشاء الدقيقة العنق العريضة الرأس التي لا تزال مستديرة على نفسه ينفع منها ترياق. فهذه تفرقة إذا كان الشارحان قد اتجها إليها في شرحهما بانت قيمة كلام الجاحظ، وأنه إنما كان يعني أن هذا النوع في مصر مشهور بالضخامة والطول وأنه في سجستان على الصورة التي مثلها صاحب المصباح.
هكذا على أنه لو لم تكن بين هذه الأنواع تلك الفروق التي ميزناها بها لصار في كلام الجاحظ فضول يجب علينا أن نتلمس له العذر فيه؛ إذ كيف يعطف هذه المترادفات ومعناها واحد لا يزيد ولا ينقص.
إنه إذ ذاك يكون كلامه بمثابة قولنا ثعابين مصر وثعابين الأهواز وثعابين سجستان.
فهل يرضى أحد منا للجاحظ بمثل هذا التهافت والتكرار المزري، إنني إزاء هذا أرى أنه كان من الواجب (لو لم أجد للجاحظ هذا المخرج من كتب اللغة) أن أقول إنه إنما كرر هذه الألفاظ ليدل على العرف الجاري في هذه البلاد، فهذا النوع في مصر يسمى بالثعابين وفي سجستان بالأفاعي وفي الأهواز بالحيات.
حينذاك يستريح القارئ وتبقى لبلاغة الجاحظ صورتها الجميلة التي له في نفوسنا والتي يجب أن نحرص على بقائها كذلك ص 129 ورد في وصف الجارود وأبي الحارث جمّين أنهما يمتحنان ما عند الناس بالكُلَف الشِّداد فيقول الشارحان في ذلك ويمتحنان الخ أي ينزلان المحن بما عند الناس من المال بسبب هذه الكلف الصعبة.
وأقول إن تفسير الامتحان بما فسراه به تكلف شديد جداً.
وعندي أن الامتحان هو بمعناه المتبادر الذي يملأ عقول الطلبة والمعلمين خصوصاً في هذه الأيام وهو الاختبار، والمراد بامتحان ما عند الناس اختبار أخلاقهم ومعرفة مدى كرم نفوسهم ص 131 يقول الجاحظ: سئل جمّين عن جود محمد بن يحيى فقيل له: كيف سخاؤه على الخبز خاصة؟ قال: (والله لو ألقى إليه من الطعام بقدر ما إذا حَبَس نَزْفَ السحابِ ما تجافى عن رغيف) ثم يقول الشارحان في معنى ذلك: أي لو أعطى من الطعام مقداراً لو جعل كومة واحدة فارتفعت حتى وصلت إلى السحاب فمنعت ماءه من أن يصل إلى الأرض ما تجافى الخ، ثم يقولان بعد كلام: ووضع (إذا) في العبارة غريب أهـ.
والواقع أن وضعها على حسب شرحهما ليس غريباً إذ قد وقعت موقعها وتوافر في العبارة شرطها وجوابها، فكيف يكون وضعها غريباً إذا تم لها ذلك وقد جرى الشارحان في شرحهما على اعتبار أصالتها بدليل أنهما استعاضا عنها في الشرح بلو.
ونحن نعترض على ضبط العبارة وشرحها، فأما الضبط فنرى أنه كان ينبغي أن يكون هكذا: (.

إذا حُبسَ نزفَ السحاب)
.
وأما المعنى فهو: لو قدم إليه من الطعام مقدار إذا جمع بعضه فوق بعض وصل إلى السحاب فاحتك به وتشرب ماءه، ما تسامح في رغيف منه مع هذه الكثرة وقد نتكلف تصور ارتفاعه إلى السحاب.
بل يكفي في تمثيل كثرته أنه لو سقط عليه ماء السحاب لتشربه، وعلى هذا يكون قوله: (ما تجافى رغيف) جواباً للو، لا لاذا (ص152) في الحديث عن مغرم أصحاب الدور يورد الشارحان عبارة الأصل هكذا: (فإذا قسمنا الغرم عند انهدامها بإعادتها، وبعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها، ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من كرائها خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الريح). ويشرحان هذه العبارة المضطربة شرحاً يأتي مثلها مضطرباً.
ولسنا بحاجة إلى بيان اضطراب الشرح وإنما نكتفي ببيان اضطراب الأصل فتقول: إن كلمة قسمنا لا موضع لها في الكلام إذ القسمة تقتضي شيئاً يقسم، ولسنا نرى هنا أقساماً فصلها القائل في كلامه وإنما صواب الكلمة قسنا، والقياس هو التقدير والحساب.
وهنا قاس المتكلم غرم صاحب المنزل في بنائه أولاً ثم إعادته بعد تهدمه، بما حصل عليه من كراء فخرج القياس بخسران المالك وربح الساكن.
كذلك نرى أن الواو في عبارة (وبعد ابتنائها) مقحمة تفسد المعنى والصواب حذفها فكان ينبغي أن تكون الجملة هكذا (فإذا قسنا الغرم عند انهدامها بعادتها بعد ابتنائها، وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من كرائها، خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الربح) (بقية المقال للعدد القادم) محمود مصطفى

شارك الخبر

المرئيات-١