الصبر
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الصبرإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان؛ قال الله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2].
في هذه الدنيا قليل مِن المَسرَّات، وكثير مِن المُكدِّرات والمُنغِّصات، والشدائد والنوائب، وهي لا تَصفو دائمًا لأحد، ولله درُّ القائل:
هي الأمورُ كما شاهدتُها دُوَلٌ
مَن سرَّهُ زَمنٌ ساءتْه أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ
ولا يَدومُ على حالٍ لها شانُ
وكيف لا تكون كذلك، وهي مِن هوانها لا تُساوي عند الله جناح بعوضة؟ عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو كانت الدنيا تَعدِل عند الله جناحَ بعوضة، ما سَقى كافرًا منها شربة ماء))؛ رواه الترمذي برقم (2320)، وقال: حديث حسن صحيح، وراوه ابن ماجه برقم (4110).
فلا ينفكُّ المرء عن مُصابٍ أو بَلوى، ومكدِّر أو منغِّص، لا سيما إن كان مؤمنًا؛ فإنَّ أشدَّ الناس بلاءً في هذه الدار الفانية الأنبياءُ ثمَّ الصالِحون، ثم الأمثل فالأمثل مِن المؤمنين؛ عن سعد بن أبي وقاص قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((الأنبياء ثمّ الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة، زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقَّة، خُفِّف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يَمشي على الأرض وليس عليه خطيئة))؛ رواه الترمذي برقم (2398)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه برقم (4023).
قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31] وعدَّد ربُّنا أنواعًا من البلوى تُصيب الخلق حتمًا؛ فقال - عزَّ من قائل -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، نعم؛ إذا أصابتْهم المُصيبة، قالوا بألسنتهم وقلوبهم: إنا لله ملكًا وعبيدًا يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون، ويذكرون نِعَم الله عليهم؛ ليَروا أن ما أبقى لهم أضعاف ما استردَّه منهم.
إن المؤمن يَنظر إلى الأمور بعين الذي يعلَم أنه لا يَجري في هذه الدنيا شيء إلا بتقدير الله ومشيئته وفعلِه، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فعليه السخط، ماذا يفيد التسخط؟ هل يعيد لفاعله فقيدًا؟ هل يُشبِع له بَطنًا؟ هل يجلب له أمنًا؟ لماذا لا يواجِه الإنسان هذه الحياةَ شجاعًا راضيًا بقضاء الله وقدره؟ لماذا لا يُواجِهها وهو يعمل ما يستطيع أن يعمل في هذه الظروف والأوضاع التي شاءت إرادة الله أن يكون فيها ما قدَّر وقضى؟ وما أروعَ هذا الحديثَ الصحيح الدى يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابتْه سراءُ شكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضراءُ صبَرَ، فكان خيرًا له)).
إن الصبر والرضا بقضاء الله والتسليم لأمره، إن ذلك يُحوِّل المصيبة إلى نعمة؛ قيل للحسن البصري: من أين أُتي هذا الخُلق؟ قال: مِن قِلة الرضا عن الله، قيل: ومَن أين أُتيَ قلة الرضا عن الله؟ قال: مِن قِلَّة المَعرِفة بالله.
فلنرضَ عن الله، ولنَقبلْ ما قسَمه لنا؛ فهو الحكيم وهو الخبير.
إن الرضا هو المَنزلة التي تلي الصبر، وإنها لمنزلةٌ عالية يَسعُد صاحبها، فإذا لم يَستطع الإنسان الصبر فلْيَتصبَّر؛ أي: ليتكلف الصبر وليَحمِل نفسه على ذلك، وسيبلغه - إن شاء الله - لما رَوى البخاري برقم 6470، ومسلم برقم 1053، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((مَن يتصبَّر، يُصبِّرْه الله)).
قال إبراهيم النبهاني: (الحماسة 1: 88):
تَعزَّ فإن الصبرَ بالحرِّ أجمَلُ
وليس على ريبِ الزمانِ مُعوَّلُ
فإن تكنِ الأيامُ فينا تبدَّلتْ
بنُعمى وبؤسى، والحوادثُ تفعَلُ
فما ليَّنتْ مِنا قناةً صليبةً
ولا ذلَّلتْنا للتي ليس تَجمُلُ
ولكنْ رَحَلْناها نفوسًا كريمةً
تُحمَّلُ ما لا تَستطيعُ فتَحمِلُ
وقَينا بحُسنِ الصبرِ مِنا نفوسَنا
فصحَّتْ لنا الأعراضُ والناسُ هُزَّلُ
ويَكفي الصبرَ شرفًا أن الله تبارك وتعالى يكون مع مَن تَحلى به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
والصبر - كما قال العلماء - أنواع:
• فمنها الصبر على امتِثال ما أمرَ الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وليس لمَن قلَّ صبرُه على طاعة ربه حظٌّ مِن صلاحٍ ولا تَوفيق.
• ومنها الصبر على ما فات إدراكه مِن رغبة مرجوَّة، ومسرَّة مأمولة، فالصبر على ذلك يُهدِّئ النفس، ويَجعل طاقات الإنسان عاملة فيما يَعود عليه وعلى أمته بالخير والسداد، أما الذين لا يَصبِرون على ذلك، فتراهم مُحطَّمين بألوان مِن الأمراض النفسية؛ كالعُشَّاق المجانين الذين تَذكُرهم كتب الأدب، الذين لم يَصِلوا إلى الزواج بمَن يُحبون، فأصابهم ما أصابهم، والعياذ بالله.
• ومنها الصبر على مُتابَعة الطريق للوصول إلى ما يَقصِده الإنسان مِن الخير الذي يَرجوه، والأمور الكريمة السامية التي يتطلَّع إليها المرء الطموح؛ مِن العلم والمال والجاه، ومِن أجمل ما قيل في ذلك قول محمد بن بشير: (الحماسة: 2: 32).
إن الأمورَ إذا انسدَّتْ مَسالِكُها
فالصبرُ يَفتِق منها كلَّ ما ارتَتَجَا
لا تيأسنَّ وإن طالَتْ مُطالبَة
إذا استعنْتَ بصبرٍ أن تَرى فرَجَا
أَخلِقْ بذي الصبرِ أن يَحظَى بحاجتِه
ومُدمِنِ القرعِ للأبواب أن يَلِجَا
• ومنها الصبر على المَصائب والرزايا التي لا يدَ للمرء فيها؛ مثل فقد الأحبة، وهلاك الأموال، وزوال الصحة، وإيذاء الناس، والصبر عليها تَعقُبه السعادة، ويُكسِبه الثواب من الله؛ قال سيدنا علي - رضي الله عنه -: "إنك إن صبرتَ، جَرى عليكَ القلمُ وأنت مأجور، وإن جزعت، جرى عليك القلم وأنت مأزور"، قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((احفَظ الله تَجدْه أمامك، تَعرَّف إلى الله في الرخاء يَعرِفكَ في الشدة، واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يُسرًا))[1].
وكمال الصبر يكون عند الصدمة الأولى؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))؛ رواه البخاري 1283 ومسلم 926.
ولا مانع مِن البكاء؛ فإنه جائز، لكن المحرَّم هو الجزع وتَمزيق الثياب وطول الحزن؛ فقد جاء في الحديث: ((لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميِّت فوق ثلاث ليالٍ، إلا على زوج أربعة أشهر وعَشرًا))؛ رواه البخاري 3534 ومسلم 1486.
والصبر سبيل الفلاح ووسيلته؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
[1] أورده الإمام النووي في الأربعين، الحديث التاسع عشر.