أرشيف المقالات

تأملات دعوية في قصة مؤمن آل فرعون بسورة غافر

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
تأملات دعوية في قصة مؤمن آل فرعون بسورة غافر
 
قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 28 - 44].
 
الفوائد الدعوية المستنبطة من الآيات:
1 - من أساليب الدعوة إلى الله الحكمة تحيُّن الفرص واستثمارها، وقد كان مؤمن آل فرعون حكيمًا؛ حيث أخفى وكتم إيمانه عن فرعون وقومه إلى الوقت المناسب؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾؛ أي: لا أحد يعلم أنه مؤمن، ومكث على هذه الحال إلى أن جاءت الفرصة والوقت المناسب ليُظهر إيمانه ويدافع عن المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام في بداية دعوته كانت دعوته سرًّا لمدة ثلاث سنوات؛ لأنَّ الحكمة تقتضي ذلك، ولو أظهر دعوته مباشرة لربما لم ينتشر الدَّين وكانت المفسدة أعظمَ وأكثر من المصلحة، ففي مثل هذه الحالات يجب مراعاة الحكمة، وعدم التسرع والعجلة، وضبط الغيْرة، وفي بداية الدعوة وحينما كان المؤمنون مستضعفون قلة، قد ورد عن خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)[1]، فالفرصة لم تكن سانحة ولم تتحيَّن بعد، ولكن بعد سنوات قليلة من الدعوة انقلب الأمر، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا منتصرًا قويًّا.

2 - من صفات الداعية الدفاع عن المسلمين، والذبِّ عنهم بحق؛ حيث قال الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون وهو مدافع عن موسى عليه السلام: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾، فقد يسمع الداعية أو غيره من يتَّهم أهل الحق، فيجب عليه الدفاع عنهم والذبِّ عن أعراضهم؛ لأنَّ الدفاع عنهم دفاع عن الدِّين؛ لأنهم هم من يُبلِّغون الدِّين وأحكامه.
 
وقد ورد مثل ذلك في السنة، فقد بعث النبي عليه الصلاة والسلام عمر على الصدقة، فقيل له: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فدافع صلى الله عليه وسلم عن خالد - فقال: (أما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله..
)[2]، ولنتأمل هنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن القصواء عندما كانت متجهة للحديبية فبركت، فقال الصحابة: خلأت القصواء، - أي: بركت ولا تريد أن تتقدم أو تمشي - فقال لهم صلى الله عليه وسلم مدافعًا عنها: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن منعها مانع الفيل)[3].
 
3 - من وسائل الدعوة إلى الله الإقناع العقلي، فقد قال هذا الرجل لقومه: ﴿ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾؛ أي: موسى جاء ببينات وبراهين وحجج عقلية يصدق بها العقل، فكيف لا تصدِّقونه وتؤمنوا به، وقد سبق الحديث عن مثل هذه الوسيلة.
 
4 - من وسائل الدعوة إلى الله التذكير بالنعم؛ حيث قال لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾، وقد ورد في السنة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم جائعًا، فقابل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأخرجهما الذي أخرجه، ثم ذهبا إلى أحد الصحابة واسمه أبو الهيثم بن التيهان، فذبح لهم ثم شربوا من الماء البارد وأكلوا وشبعوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث: (هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد)[4].
 
5 - من وسائل الدعوة الترهيب؛ حيث قال مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾، وفي ذلك تخويف لهم من عذاب الله وبأسه وبطشه.
 
6 - من صفات الداعية عدم اليأس من دعوة الآخرين، وتكرار دعوتهم بطرق ووسائل مختلفة متنوعة، فقد كرَّر مؤمن آل فرعون دعوته لقومه بطرق ووسائل متنوعة، بدأها بالإقناع العقلي: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ...
وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ..﴾، ثم ذكَّرهم بنعم الله عليهم: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾، ثم خوَّفهم: ﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾، وخوَّفهم كذلك: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾، ثم خوفهم بعقوبات دنيوية أصابت من كان قبلهم: ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [غافر: 31]، ثم انتقل إلى وسيلة أخرى، وهي تذكيرهم بعقوبات الآخرة: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، ثم رغَّبهم بما عند الله وحقارة الدنيا وزوالها: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
 
7 - من أساليب الدعوة الترهيب والتخويف؛ قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾، ثم خوَّفهم بيوم القيامة قال: ﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾.
 
8 - من صفات بعض من يتعامل معهم الداعية الاستكبار وعدم قبول الحق، فبعد أن نصح مؤمنُ آل فرعون فرعونَ وقومه، قال لهم فرعون: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، وهذا حال كل مدعو تأخذه العزة بالإثم، فيرفض الحق ويعاند، فيُظهر للناس أن الحق معه بدون أي حجة ولا برهان.
 
9 - ومن صفات هؤلاء وجود أتباع اغترُّوا بهم؛ قال تعالى عن فرعون: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، فأظهر فرعون نفسه في صورة الناصح المشفق الخائف على قومه، فغرَّرهم فصدَّقوه، قال تعالى عن قومه: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].
 
10 - من وسائل الدعوة حُسن الخطاب والتلطف والرفق واللين في القول؛ حيث كرَّر هذا المؤمن قوله: (يا قوم) ستة مرات في آيات مختلفة، وهذه الكلمة فيها لطف وشفقة وحب للآخرين ورحمة بهم، وخاطَب بها قومه وهم كفار، والله عز وجل يقول: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].
 
11 - من أساليب الدعوة الترغيب؛ قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾، وقد سبق الحديث عن ذلك.
 
12 - الحذر من الغرور والتكبر والعجب بالنفس؛ قال تعالى عن فرعون: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾، فعندما يتملك الإنسان الغرور بنفسه، ويرى نفسه ويغريه الشيطان، فحينئذ يحصل الهلاك، فلذلك لا يرى أن أحدًا يصل إلى ما وصل إليه، فيتكبَّر ويتمادى، وفي هذا تحذير للداعية من سلوك هذا المسلك، فقد يدخل الشيطان على الداعية، فيجعله يتكبر ويُعجب بنفسه بسبب علمه أو عمله، أو حب الناس له وتأثيره فيهم، أو بكثرة عدد متابعيه، والحضور في المحاضرات أو حتى في برامج التواصل الاجتماعي، أو بسبب منصبه وماله وجاهه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرًا من ذلك: (ثلاثٌ مهلكات: شحٌّ مُطاع، وهوىً مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه)[5]، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام صحابته الكرام بذكر قصص من أمثال المعجبين بأنفسهم، فقال: (بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسَف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)[6]؛ يتجلجل؛ أي: يغوص، وقد حذَّر الله عز وجل نبيه من ذلك فقال له: ﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ [المدثر: 6]، قال الحسن البصري: "لا تَمنُن بعملك على ربك تستكثره"، وقد نهى الله عز وجل عن تزكية النفس، فقال: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].
 
13 - من وسائل الدعوة إلى الله الترغيب باستخدام أسماء الله الحسنى، فقال مؤمن آل فرعون لقومه: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)، فلم يقل لهم أدعوكم إلى الجبار أو المتكبر أو القوي، بل ذكر لهم اسمًا من أسماء الله عز وجل يدل على مغفرة الذنوب (الغفار)؛ أي كثير المغفرة يسرف العباد في الذنوب والكفر، ويعصون خالقهم، ثم إذا تابوا ورجعوا غفر لهم سبحانه، وقد فعل مثل ذلك نوح عليه السلام مع قومه، فقال لهم: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، فمثل هذه الوسيلة تُرغِّب المدعو في التوبة وتُعرِّفه بخالقه جل وعلا، فيُذكَّر المدعو العاصي ولو بلغ ما بلغ من الذنوب بأن ربه غفور غفار، رحيم رحمن، تواب رحيم، بل وردت أحاديث كثيرة في السنة تبيِّن عظم رحمة الله وفضله وكريم عفوه، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي..)[7].
 
14 - من صفات الداعية التوكل على الله وتفويض الأمور إليه صغيرها وكبيرها، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44]، فالوكيل سبحانه هو العليم والبصير بعباده، يعلم حالهم وما يصلحهم وينفعهم، ويصرف عنهم ما يضرهم ولا ينفعهم.

[1] أخرجه البخاري.

[2] أخرجه البخاري.

[3] أخرجه البخاري.

[4] أخرجه الترمذي.

[5] رواه الطبراني في معجمه، وحسَّنه الألباني.

[6] أخرجه مسلم.

[7] أخرجه الترمذي.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣