أرشيف المقالات

والسابقون...

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
والسابقون
 
روى عَبْداللَّهِ بْن المبارك، عن الأسود بْن شيبان، عن أَبِي نوفل بن أَبِي عقرب، قال: خرج الحارث بن هشام من مكة للجهاد، فجزع أهل مكة جزعًا شديدًا، فلم يبق أحد يطعم إلا خرج يُشيعه، فلما كان بأعلى البطحاء وقف ووقف الناس حوله يبكون، فلما رَأَى جزعهم رقَّ فبكى، وقال: يا أيها الناس، إني والله ما خرجت رغبة بنفسي عن أنفسكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر (يعني: الإسلام)، فخرجت رجال، والله ما كانوا من ذوي أسنانها، ولا في بيوتاتها، فأصبحنا، والله ما أدركنا يومًا من أيامهم، والله لئن فاتونا به في الدنيا، لنلتمس أن نشاركهم به في الآخرة، ولكنها النقلة إِلَى اللَّه تعالى، ثم توجه إلى الشام فأصيب شهيدًا؛ (أسد الغابة ص643).
 
لقد كان رضي الله عنه يقدِّر للسابقين قدرهم، ويعرف للمتقدمين فضلهم، فرأيناه قد آثر الجهاد والرباط بعيدًا عن الأهل والوطن، راجيًا أن يلحق بركب السابقين إلى الإسلام، وينال بذلك مشاركتهم الأجر في الآخرة حين تأخر عنهم في الدنيا؛ مما يعني أن تلك النظرة المُجِلَّة للمبادرين كانت شائعة في المجتمع المسلم آنذاك، فالسابقون لهم قدرهم في نفوس اللاحقين.
 
لقد وقرت هذه المعاني (معاني المبادرة والمسابقة والمسارعة) في نفوس الصحابة بعد إسلامهم حين عززها القرآن؛ إذ قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ [الحديد: 21]، فصاروا يتسابقون في ميادين الشرف، أو ينظرون بعين الإجلال والتقدير لكل من كان له سابق فضل.
 
كما أشارت السِّيَر بفضل السابقين إلى الحق، فنجد الصحابي يفرح بأنه رابع أربعة أو سادس ستة أسلموا، وصار أيضًا للسابقين إلى بدر يوم الفرقان يوم وقعت أولى المواجهات العسكرية بين كتائب الحق والباطل مزية تخصهم عن غيرهم؛ لبَدارهم إلى الخروج.
 
ولم يقتصر الأمر على الرجال دون النساء، فقد حدثتنا عائشة رضي الله عنها، فذكرت مسارعة المهاجرات الأُوَل لتمزيق مُرطهنَّ لَمَّا نزلت آية الحجاب، حدثتنا بذلك متحاسنةً فعلهنَّ، فدعت لهنَّ؛ إذ قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لَمَّا أنزل الله: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، شققن مروطهنَّ فاختمرنَ بها"؛ رواه البخاري.
 
وكما مدح الله عباده في القرآن بأنهم كانوا ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]، كان الذم من نصيب قوم يسارعون أيضًا، لكن في سبيل الضلالة، فذُكِروا في القرآن للتنفير والتحذير منهم، وبها إشارة أيضًا إلى أن أولئك ينتصرون لدينهم الضال مبادرين، فما يمنع أهل الحق؟! قال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكفر ﴾ [آل عمران: 176]، وذكر القرآن أيضًا آخرين مضت أعمارهم وماتوا وهم ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 62]، عياذًا بالله.
 
إن المسارعة اليوم إلى حفظ القرآن وطلب العلم، أو الدعوة والإغاثة، أو التطوير والتربية، أو غير ذلك من وجوه البر أحوج ما نكون إليها من الأمس؛ لأسباب كثيرة، أولها وأوسطها وآخرها: أن الله تعالى ندب إلى ذلك، فمن تعظيم الله جل شأنه، والتسليم المطلق لأمره تعالى أن نمتثل ونتلقى ذلك بالقبول والمبادرة، ولسان واحدنا: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]، ثم تأتي بعد ذلك أسباب كثيرة، كالخوف مثلًا من الانزلاق في الفتن، يشير لذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "بادِرُوا بالأعْمالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيا" صحيح مسلم، فالمبادرة أوجب ما تكون قبل نزول الفتن، فإذا حلت الفتن أشغلت المؤمن، وألهت قلبه، وصرفت نفسه.
 
ومن الأسباب الدقيقة الداعية للمبادرة، ويشهد لها الواقع: الخوف من تغير النية حال التراخي عن العمل:
قد كان لعمر بن عبدالعزيز رحمه الله ضيعة تسمى (السهلة) قبل توليه الخلافة، فلما آلت إليه الخلافة، عزم على أن يردها إلى بيت مال المسلمين، فعلم بذلك وزير له، فقام الوزير بتذكير الخليفة بأولاده وحاجتهم لهذه الضيعة مستقبلًا؛ مما جعل عمر يبكي ويمسح دموعه ويقول: أكِلهم إلى الله، أكِلهم إلى الله، وأصرَّ عمر على رد الضيعة.
 
توجه الوزير بعد ذلك إلى عبدالملك (ابن الخليفة عمر بن عبدالعزيز)، علَّه أن يساعده في ثني الخليفة عن رأيه وإبقاء الضيعة، فما كان من الولد إلا أن قال: بئس الوزير أنت، ثم وثب وانطلق إلى أبيه، فلما جاءه استأذن للدخول إليه، فأخبره الآذن بأن الخليفة ليس له إلا هذه الساعة من الليل والنهار يقيل فيها! لكن عبدالملك عزم على الدخول، فدخل.
 
ثم إن عبدالملك ذكر الضيعة لوالده، وأنه ما جاء إلا ليُعجِلَ والده في رد الضيعة، فسُرَّ الخليفة بذلك وحمد الله، وأثنى عليه أن جعل من أبنائه من يعينه على دينه، ثم قال: نعم يا بني، أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر وأردها علانية أمام الناس، فقال عبدالملك: يا أبت، ومن لك أن تعيش إلى الظهر؟! ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر؟! فقام عمر وردها من فوره؛ (قصص العرب ( ٢/ ٢٣٢).
 
نعم، مَن لنا أن تسلم نيَّاتنا إلى الظهر؟! بل من لنا أن تسلم نياتنا إلى أقل من ذلك؟! ويا ليتك يا عبدالملك تعلم أن منا من يكاد أن يأمن على نيته من التغير، فيؤجل اشتغاله بالعلم، أو الحفظ، أو الدعوة إلى سنة قادمة مجهولة؛ لا يدري أتأتيه وقد تغيرت نيته، أو تأتيه وقد تغيرت حياته!
 
فيا أنا ويا كلَّ أحد: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ"؛ الألباني صحيح الترغيب.
 
ثم إذا تأمل المؤمن في عاقبة التأخر والتباطؤ عن الطاعة، فزِع قلبه أن يكون من أهلها وهو لا يشعر، فيدفعه ذلك للإقدام والمسارعة، قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين ( 2/ 207): "الإنسان إذا انفتح له باب الخير أول مرة ولم يفعل، فإنه يوشك أن يؤخره الله عز وجل، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لايزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله"؛ ا.
هـ.
 
وحذَّر الشيخ رحمه الله في موضع آخر في تعليقه على ذات الحديث، ونبَّه إلى أن الإنسان كلما تأخر ألقى الله في قلبه محبة التأخر في كل عمل صالح، والعياذ بالله (5/ 111)، وقال أيضًا في تعليقه على قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا رضي الله عنهم في غزوة تبوك: "وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح، فإنه حري أن يُحرَم إياه؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، فالإنسان إذا علِم الحق ولم يقبله، ويُذعن له من أول وهلةٍ، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه والعياذ بالله"؛ انتهى كلامه رحمه الله.
 
فانظُر إلى عقوبات التأخر التي أشار لها الشيخ رحمه الله: تأخير الله للعبد، ومحبة العبد للتأخر، وحِرمان الله للعبد من العمل الصالح، وفي ذلك زجر للمؤمن عن التراخي والتسويف والتأجيل، والله المستعان.
 
وحين وثب عكاشة رضي الله عنه ذات ذكرٍ للسبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، نال دعوةً من النبي صلى الله عليه وسلم، فاز بها بإذن الله في آخرته، فيا رُبَّ وثبة أورثت فوزًا!
 
وقد تلوح لك فرصة علمية، أو دعوية، أو تربوية، أو غير ذلك من سبل الحق، فيا فوزك إن استنسخت لها انقضاض عكاشة رضي الله عنه، وأخذت بقول الله: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، واحذر فإنها إن فاتت قد يتبعها مثلها، حتى إذا فاتت الفرص، وطال العمر، واعترضت صوارف الدنيا، انكب الإنسان على مشاغله متعذرًا بها، وليست كذلك! وبكى سنينه المتصرمة!
 
قال الشاعر محذرًا من التردد وانعدام العزيمة - وهذان من أسباب التأخر عن العمل الصالح -:
لا يمتطي المجد مَن لم يركب الخطرَا *** ولا ينال العُلا من قدَّم الحذَرا
 
ثمة ملحظ آخر تفطَّن له العلماء، وهو ملحظ مخيف؛ إذ ذكروا رحمهم الله أن العبد الذي يقعد عن العمل الصالح، أو الإنكار، أو الدعوة، أو غير ذلك من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر قد يكون ممن كره الله قيامه لميادين الخير؛ فلذلك أقعده: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46]، ومن هذا العبد الذي يهنأ بحياةٍ كره الله انبعاثه في ميادينها الخيرية؟!
 
والمقصود:
أن يعلم العبد حاجته الملحة إلى المبادرة، وأن الخلائق يتخطفهم الموت بين الحين والآخر، أو تنزلق بهم الأقدام في الفتن؛ لذا عليه طلب المعونة من الله على المبادرة والإسراع في الخير، وسؤاله ذلك بإلحاح، فمن دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"؛ صححه الألباني، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هِممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخِذلان ينزل على قدر ذلك"؛ (الفوائد: 233، بتصرف)، وعلى العبد أيضًا الاستعاذة من ضد ذلك، فقد "استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، وهما مفتاح كل شر، ويصدر عنهما الهم والحزن..."؛ (مختصر زاد المعاد: 979)، ثم عليه أن يعلم أخيرًا أن الأمة ولود، فإن قام عبدٌ لخدمتها وإلا قام لها عبادٌ هم الآن نُطَفٌ في ظهور آبائهم: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴾ [محمد: 38].

شارك الخبر

المرئيات-١