أرشيف المقالات

طفولة النبي صلى الله عليه وسلم - هاني مراد

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
لم تكن الظروف التي نشأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم محض صدفة أو بلا مغزى من ورائها، بل كانت هذه الظروف بترتيب من الله عز وجل؛ كي تُصقل شخصية النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
اليتم:
ولد رسول الله يتيماً، وكأن هذا اليتم يراد من ورائه غرس بذور الرحمة في هذا القلب الذي سيحمل الحب لكل البشر والرحمة للعالم أجمع.
فهذا القلب الذي ذاق مرارة اليتم والحرمان من عطف الوالدين، تعلّم كيف يكون رحيما بمن حوله، حتى وإن عادوه، وكيف يكون حريصا عليهم وإن عذبوه وأهانوه.
فهو لا يريد لهم الخلود في النار أو ذوق لهيبها، بل يريد لهم التنعم بمرضاة الله والخلود في جناته.
الفقر وعدم الثراء:
لم يكن النبي محمد يتمتع بالثراء بين أقرانه ومجتمعه، بل كان رجلا فقيرا، يعيش كما يعيش عامة الناس في مجتمعه، يأكل كما يأكلون، ويلبس كما يلبسون.
لقد تربى في كنف عمه أبي طالب، بعدما مات أبوه وجده.
وكان أبو  طالب رجلا كثير العيال قليل المال، رغم مكانته في قومه.
هذه الحال البسيطة التي وجد النبي نفسه عليها، دفعته إلى العمل، وعدم التواكل، وعدم الركون إلى الدعة، وعدم الانغماس في اجتماعات اللهو.
فقد أخذ على نفسه أن يعمل ليساعد عمه في متطلبات الحياة.
جعلت منه هذه الظروف، شخصا مسؤولا، رغم صغر سنه، وجعلت منه إنسانا يشعر بمن حوله ويشاركهم همومهم، وما يمرون به في حياتهم.
رعي الغنم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه وسلم: " «ما من نبي إلا ورعى الغنم» " (رواه البخاري ).
هذا العمل الذي اختاره الله للأنبياء، واختاره لرسوله الكريم؛ محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن سوى لحكمة عظيمة، ولما يتركه في نفس صاحبه من خصال فاضلة.
إن الرجل الذي يعمل في هذا المجال، ويقوم على رعاية هذه الأغنام، ويتعامل معها بكل بساطة وتلقائية، لحري به أن يكون التواضع سمة بارزة في خلقه؛ هذا التواضع الذي من شأنه أن يجذب الناس إليه، وإلى رسالته فيما بعد.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تواضعا، فقد كان يخالط الفقراء والمساكين ويتعامل معهم بكل تقدير واحترام.
ولم تقف مزايا رعي الغنم الذي عمل به النبي، عند هذا الحد، بل لقد أكسب النبي الصبر الشديد.
فقد كان يخرج بهذه الأغنام في قيظ الصحراء الملتهبة، يصبر على العطش الشديد والحر الشديد، ويصبر على الأغنام ورعايتها من طلوع الشمس حتى غروبها.
وكان يصبر على جمع شتاتها، وهي التي تنتشر يمينا وشمالا، فأكسبه ذلك صفة الصبر في حياته عامة، فكان أصبر الناس على أذى قومه له، وأصبر الناس على تكذيب من حوله له، وعلى جهل الجاهلين معه، فكان أول أولي العزم الذين صبروا حتى نهاية حياتهم.
وهناك صفة رائعة، لا يمكننا أن نغفل عنها في معرض حديثنا، وهي التأمل الذي يتيحه هذا العمل لصاحبه.
لقد كان النبي يتأمل في ما حوله من خلق الله، في السماء وأفقها، وفي الأرض ورحابها.
كل هذا، جعله يعلم أن للوجود خالقا أعلى، وأنه محال أن تكون هذه المخلوقات العظيمة قد جاءت نتاجا للصدفة، أو جاءت بها هذه الأصنام الصماء التي يعبدها قومه.
وللشجاعة نصيب لا بد وأن يذكر حين نتكلم عن رعي الغنم.
فهذا الذي يرعى الغنم، يواجه خطر الحيوانات الضارية مثل الذئاب، ويواجه اللصوص الذين يسعون لنهب ما لدى غيرهم.
ترى كيف يكون نصيب شخص مثل هذا من الشجاعة؟
لا بد وأن هذه الخصلة ستكون مكونا أساسيا في شخصيته.
وهذا ما ورد عن النبي بالفعل، حين وصف علي بن أبي طالب شجاعته قائلا:
" «كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو» " (رواه أحمد والطبراني والنسائي).
أما الرحمة، فقد كانت صفة ظاهرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وهو الذي يرعى الغنم، ويعاملها برفق وإحسان، ويحنو عليها، ويعاملها كما لو كانت بشرا يفهم ويعي، ويكون إلى جانبها إذا هي مرضت، ويسقيها إن عطشت ويطعمها إن جاعت.
وهذا ما يظهر في أحاديثه، حين يوصي بالرحمة بالحيوان، ويجرم تعذيبه.
وحري بالذي يرحم هذه الكائنات الضعيفة، أن يكون أرحم الناس بالبشر وأحرصهم على مصالحهم.
ورعي الغنم، أكسب النبي صفة الاعتماد على النفس ، وحب الكسب من عمل اليد.
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
«مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عمل يده» ."
هذه الطبيعة البشرية التي تسعى لكسب قوتها بيديها، تكون حرة في اتخاذ قرارتها، لا تخضع لأحد، ولا تنحني لأي كائن كان.
ومن أعظم ما في رعي الغنم، أن هذا العمل يعوّد صاحبه البحث عن كل ما هو جيد لتلك الأغنام، من مراع خصبة وأماكن آمنة بعيدة عن المخاطر.
وهذه الأمور ركائز أساسية في حياة الرسل عامة، حيث يبحثون عن الخير لأمتهم، ويسعون لتجنيبها ويلات البعد عن الله وعن الفطرة الإنسانية.
 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢