أرشيف المقالات

تفسير الزركشي لآيات من سورة التغابن

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
تفسير الزركشي لآيات من سورة التغابن
 

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]
قال رحمه الله: ومن معاني "الهدى" الاسترجاع نحو قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ أي في المصيبة أنها من عند الله: ﴿ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ للاسترجاع[1].

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]
قوله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا ﴾، فإن سبب نزولها أن قومًا أرادوا الخروج للجهاد فمنعهم أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم أنزل في بقيتها ما يدل على الرحمة وترك المؤاخذة فقال ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [2].

قال ابن الحاجب في أماليه: "إنما قدم الأزواج؛ لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء، ووقوع ذلك في الأزواج أقعد منه في الأولاد، فكان أقعد في المعنى المراد فَقُدِّم"[3]، ولذلك قُدِّمت الأموال في قوله: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15] [4]؛ لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7] [5]، ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ [الإسراء: 16][6]، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها وكان تقدمها أولى[7].

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]
قوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ ِ[8]، مع قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ يحكى عن الشيخ العارف أبي الحسن الشاذلي[9] رحمه الله أنه جمع بينهما، فحمل الآية الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال، والمقام يقتضي ذلك؛ لأنه قال بعد الأولى: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[10].

وقيل: بل الثانية ناسخة، قال ابن المنير[11]: الظاهر أن قوله: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ ِ[12]، إنما نُسِخَ حكمه لا فَضْلُه وأجره، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - ﴿ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ِ بأن قال: "هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلْا ينسى ويشكر فلا يكفر"[13]، فقالوا: أيُّنا يطيق ذلك؟ فنزلت ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾، وكان التكليف أولاً باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس، كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسًا، والاقتدار منزَّل على هذا الاعتبار، ولم ينحط من درجاته.

وقال الشيخ كمال الدين الزَّمَلْكَاني[14]: وفي كون ذلك منسوخًا نظر، وقوله: ﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ هو حَقَّ تُقَاتِه ﴾ ِ إذ به أمر، فإن ﴿ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ِ الوقوف على أمره ودينه، وقد قال بذلك كثير من العلماء، انتهى.

والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره ﴿ حَقَّ تُقَاتِه ِ ﴾ لم يثبت مرفوعًا، بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي[15] وليس فيه قول الصحابة: "أيُّنا يطيق ذلك"، ونزول قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [16].

قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾، فإنه يحتمل أن يكون من باب التسهيل والتخفيف، ويحتمل أن يكون من باب التشديد؛ بمعنى أنه ما وجدت الاستطاعة فاتقوا، أي لا تبقى من الاستطاعة شيء، وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى: فاتقوا الله ما تيسر عليكم، أو ما أمكنكم من غير عسر.

قال الشيخ تقي الدين القشيري[17]: ويصلح معنى التخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"[18].



[1] المصدر السابق: معاني الهدى - جمع الوجوه والنظائر 1/ 85.


[2] البرهان: معرفة أسباب النزول 1/ 37.



[3] أمالي ابن الحاجب 1/ 259.


[4] سورة التغابن: 15.



[5] سورة الفلق: 6-7.


[6] سورة الإسراء: 16.



[7] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - من أسباب التقديم والتأخير الغلبة والكثرة 3/ 167.



[8] سورة آل عمران: 102.


[9] هو أبو الحسن علي بن عبدالله بن عبدالحميد المغربي الزاهد، شيخ الطائفة الشاذلية، نسبه إلى شاذلة قرية بإفريقيه، نشأ ببلده، فاشتغل بالعلوم الشرعية حتى أتقنها، وصار يناظر مع كونه ضريرًا، ثم سلك منهاج التصوف وجد واجتهد حتى ظهر صلاحه وخيره، قدم إلى أسكندرية من المغرب وصار يلازم ثغرها وانتفع الناس بحديثه، حج مرارًا ومات قاصدًا الحج في طريقه، قال ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله منه، مات رحمه الله تعالى بصحراء عَيْذَاب قاصدًا للحج في أواخر ذي القعدة سنة 656هـ.
(شذرات الذهب 7/ 481-483).


[10] سورة آل عمران: 102.


[11] هو أحمد بن محمد بن منصور المعروف بابن المنيّر، تقدمت ترجمته عند تفسير الآية رقم (1) من سورة الكهف، أشار د.
يوسف المرعشلي في تحقيق "البرهان 1/ 176" أن كتاب ابن المنير المسمى"البحر الكبير في بحث التفسير" مخطوط.


[12] سورة آل عمران: 102.


[13] الأثر روي موقوفًا على ابن مسعود ت - كما سيأتي من كلام الزركشي-، ذكره غير واحد من المفسرين، انظر: تفسير ابن كثير 1/ 435، البرهان بتحقيق د.
يوسف المرعشلي 2/ 186.


[14] هو عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف كمال الدين أبو المكارم بن خطيب زَمَلُكا، قال السبكي: كان فاضلاً خبيرًا بالمعاني والبيان والأدب، مبرِّزًا في عدة فنون، مات بدمشق في المحرم سنة إحدى وخمسين وستمائة.
(بغية الوعاة 2/ 119 رقم الترجمة (1590).


[15] رواه النسائي موقوفًا من حديث عبدالله بن مسعود، انظر: السنن الكبرى للنسائي، مؤسسة الرسالة - بيروت/ لبنان، ط/ 1 ت/ 1421هـ - 2001م، ج/ 10 ص/ 404، رقم الحديث (11847).


[16] البرهان: معرفة موهم المختلف 2/ 38.


[17] هو شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مُطيع ابن أبي الطاعة القُشيري المنفلوطي الشافعي المالكي المصري، ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، وتفقه على والده بقُوص، وكان والده مالكي المذهب، ثم تفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فحقق المذهبين، وأفتى فيهما، وسمع الحديث من جماعة، وولي قضاء الديار المصرية، ودرَّس بالشافعي ودار الحديث الكاملية، وغيرهما، صنف التصانيف المشهورة منها: "الإلمام" في الحديث وشرحه وسماه "الإمام"، وله "الاقتراح" في أصول الدين وعلوم الحديث، و"شرح مختصر ابن الحاجب" في فقه المالكية ولم يكمله، وشرح "عمدة الأحكام" للحافظ عبد الغني، وله غير ذلك، توفي رحمه الله تعالى، في صفر سنة 702هـ بالقاهرة ودفن بالقرافة.
(شذرات الذهب 8/ 11-12-13).


[18] رواه البخاري من حديث أبي هريرة ت، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وسلم، ص/ 1800، رقم الحديث (7288)، معرفة تفسيره وتأويله - الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال 2/ 130.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣