أرشيف المقالات

روعة الكراء

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2روعة الكراء
كان للتابعي الجليل محمد بن سيرين (ت: 110) منازل يكريها للنَّاس، وهي من موارده الماليَّة، ولكن كان له شرطٌ في ذلك؛ وهو أنَّه لا يكريها إلاَّ من كان من أهل الذِّمَّة (أهل الكتاب من النصارى واليهود).   واستغرب بعضُ النَّاس شرطَه هذا - ولعلَّه ظنَّ ميلاً منه إليهم بسببٍ دنيويٍّ ما - فسأله عن ذلك، فكان الجواب شيئًا لا يفكِّر به إلاَّ الكبار...   قال: إذا جاء رَأس الشهر رعتُه (ارتاع المكتري من دَفع القسط)، وأنا أكره أن أُروِّع مسلمًا.   حَكى هذا عنه العالِمُ العابدُ الكبيرُ عبدالله بن عون (ت: 151).   ولا يظن أحدٌ أنَّ السلَف كانوا ينقلون العلمَ تلذذًا وحسب، لا، بل كانوا يسمعون ويطبقون، وإليك الدَّليل: قال حمَّاد بن زيد: كان لعبدالله بن عون حوانيت يكريها، فكان لا يكريها من المسلمين (أي: لا يكريها لهم)، فقيل له في ذلك؟ (سُئل عن سبب امتناعه من كراء حوانيته للمسلمين) فقال - كما نقل هو عن محمد بن سيرين -: إنَّ لهذا الكراء إذا جاء رأسُ الشهر رَوعة (خوفًا واضطرابًا وقلقًا)، وإنِّي أكره أن أُروِّع مُسلمًا!   واليوم قد يدفع المكتري الكراء السَّنوي (لا الشهري) كاملاً، ثمَّ لا تسلْ عن همِّه وخوفه من زيادةٍ غير منضبطة، لولا أنَّ القانون حدَّد نِسبةً معيَّنة يراعى فيها المكان والزَّمان.   وكثيرٌ من الناس لا يلتزمون إلاَّ بقوة القانون، ولكن بعد منازعاتٍ وشكاوى ومراجعات، وكان الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله يقول: العاقل لا يشكو إلى قاضٍ ولا إلى سلطان.   وكان لنا صديق في حيِّ المثنى (زيونه) ببغداد، كان له منزل بجانب منزله يكريه، ويستعين بذلك على حياته إلى جانب راتبه التقاعدِي، فإذا ارتفع كراء المنازل، وغلَت أسعار المآكِل، خفض هو على المكتري من المبلغ المتَّفق عليه! وقال له: ادفع ما تَستطيع دفعه، كان اسم هذا الصديق (كوكبا)، وهو كوكب خلق وفضل حقًّا..
انقطع التواصُل بيننا منذ سنوات بسبب الأهوال النَّازلة، والحواجز الحائلة، وتذكَّرتُه اليومَ لمناسبةٍ دعَت إلى ذلك، فمن رآه فليبلغه منِّي السَّلام.   ومن غرائبِ الكرم والنُّبل والأريحيَّة وإكرامِ الابنِ الراحل: خبر العلاَّمة البلقيني، فقد أعفى مكتريًا من دفع كراءِ منزلٍ له؛ لأنَّ هذا المكتري الودود كان يَضع طاقة ريحانٍ كلَّ أسبوع على قبرِ ابنٍ من أبناءِ الشيخ قد تُوفِّي.   وقد عبَّر شاعرٌ متقدِّمٌ عن روعة الكراء - وهو ابن دواس جعفر بن علي الكتامي (توفي بعد سنة 500هـ) - فقال: أنا ممَّن إذا أتى صاحبُ الدار للكرا تتجافى جنوبُهم كلَّ وقتٍ عن الكَرى!   ومن شكوى الناس من الكراء وتذمُّرهم منه قولهم في أمثالهم الشعبيَّة: بيت كراء وماء شراء، ومن نصائحهم للتخلُّص من الكراء قولهم: بِع الذهبة واشترِ عتبة (أي: اشتر دارًا، وهذا من تسمية الكلِّ باسم البعض، وكان للبيوت سابقًا عتبات يصعد منها إلى البيوت، وتُستعمل لأغراض عِدَّة).   ويذكر في مقابل هذا - أعني: كراهة الكراء - أنَّ الحافظ ابن حجر كان يفضِّل الكراء على الشِّراء، يقول تلميذه السَّخاوي في ترجمته: "كان قليلَ الرَّغبة في العمارة، بل وفي شراء العقار غالبًا، وربَّما لام ولدَه على المبالغة في إنشاء الأماكن ويقول له: إن كان ولا بدَّ فالشراء، فيعتذر له عن عدم وجدانه الثَّمن دفعةً واحدة.   وسمعتُه غير مرَّة يقول: كلُّ مَن رأيناه من أعيان التجار وعظمائهم كانوا يسفِّهون من يبني دارًا أو يشتري عقارًا، إلاَّ أن يكون بثمنٍ بخسٍ جدًّا بالنسبة لما صرف فيه؛ فإنَّ الدَّار التي تساوي ألف دينار تكرى غالبًا بنحو الأربعين دينارًا، وإذا أُدير هذا القَدر في يد التاجر تزيد على أضعاف ذلك...".   ولكن يُخشى إذا لم تكن الإدارة ناجِحة أن نَخسر الدار والدينار، والله المستعان.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢