تفقد قلبك قبل رمضان
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِها هي نسائم الخير والبركة تهب علينا من جديد، أقبلتَ يا شهر الخيرات، أقبلتَ يا شهر الطاعة والبركات، ها هي الأيام تمرُّ مسرعةً ليعود لنا خير الشهور بما فيه من عظيم الأجر والثواب!
إننا مقبلون على أيام مباركات، وساعات فاضلات، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام عنها: « رمضان شهر مبارك، تُفتَّحُ فيه أبواب الجنة ، وتُغلَّقُ أبواب السعير، وتُصفَّدُ فيه الشياطين، وينادي منادٍ كلَّ ليلة: يا باغي الخير، هَلُمَّ، ويا باغي الشر، أقصر» (صحيح الجامع).
رمضان شهرٌ مبارك، فيه بركة الوقت ، وبركة العمل، وبركة الجزاء والأجر والثواب، وبركة في المآلات، فكم لله تبارك وتعالى في هذا الشهر المبارك من عتقاء من النار ! ففي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: «إن لله تعالى عند كلِّ فطر عتقاءَ من النار، وذلك في كل ليلة»، فكم من أناس دخلوا الشهر بنفس صافية مقبلة على الله، فكان مآلهم إلى خيرَيِ الدنيا والآخرة!
فماذا أعددنا لاستقبال هذا الضيف المبارك؟
إن أولى ما ينبغي علينا تفقُّده استعدادًا لهذا الشهر المبارك هو "قلوبُنا"، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألاَ وإن في الجسد مضغة، إذا صَلَحت صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب » (متفق عليه).
قال ابن رجب: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمةً جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها؛ وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلَح القلبُ صلَحت إرادته، وصلَحت جميعُ الجوارح؛ فلم تنبعثْ إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه؛ فقنعت بالحلال عن الحرام.
وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها، وانبعثت في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: القلب مَلِكٌ، والأعضاء جنودُه، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبُث الملك خبثت جنوده.
فالقلب هو الملك، وبقية الجوارح تَبَعٌ له، فإذا تفقدنا قلوبَنا وأصلحناها، انقادت بقية الجوارح له، وأصبحت الطاعة سهلةً يسيرة علينا بتوفيق الله عز وجل ثم بصلاح قلوبنا، وصدق عزيمتنا.
فالجدير بكل مسلم أن يَغْتَنِمَ بركةَ هذا الشهر، وأن يتحيَّن هذه الفرصة الثمينة لمحاسبة نفسه، وتطهير قلبه، والتوبة النصوح إلى الله عز وجل، وكثرة الإنابة والاستغفار.
تعالوا نحاسب أنفسَنا قبل أن يحاسبنا ربُّنا، تعالوا في هذه الساعات المتبقية على بدء هذا الموسم المبارك نعاهد ربَّنا جل وعلا على إصلاح أحوالنا، وتزيين أعمالنا والجدِّ والاجتهاد فيما يقرِّبُنا من ربنا.
فهيا بنا نتفقد هذا القلب؛ لنطهِّره من الشوائب والآفات التي عَلِقتْ به، ونُزكِّيه ليكون أرضًا خصبة تنتظر ما سنزرعُه فيها خلال هذا الشهر المبارك؛ لننعم بثمار غرسنا بقية أعمارنا.
وتزكية النفس وتطهيرها تنقسم إلى:
التخلية، والتحلية.
فالتخلية: يُقصَدُ بها تطهيرُ النفس من أمراضها وأخلاقها الرذيلة.
وأما التحليةُ: فهي ملؤها بالأخلاق الفاضلة، وإحلالها محلَّ الأخلاق الرذيلة بعد أن خليت منها.
من أمثلة الآفات التي تكون في القلب فتُمرِضُه، وتضعفه، وعليه تطهير قلبه منها:
1- العُجب: قال الشافعي : إذا خفتَ على عملك العُجبَ، فاذكر رضا مَن تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب؛ فمن فكر في ذلك صَغُر عنده عملُه.
فليست العبرة بكثرة الطاعات؛ فإن أكبر طاعة إذا أصابتها آفةُ العُجب صارت لا قيمة لها، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ قائم حظُّه من قيامه السهر، ورُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش».
فإذا أتيتَ بطاعة، فلا تعجب بنفسك، بل اعلم أنها بتوفيق الله، وكن كما قال الحسن البصري وهو يصف حالَ المؤمنين: "عملوا واللهِ بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تُردَّ عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشيةً، والمنافق جمع إساءةً وأمْنًا".
2- الحسد : الحسد خلقٌ ذميمٌ مع إضراره للبدن، وإفساده للدين، حتى لقد أمَر الله تعالى بالاستعاذة من شرِّه: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5].
الحسد يضرُّ صاحبه؛ لأنه ساخط على قدر الله بقصد، أو بدون قصد؛ لأنه تسخَّط على قضاء الله وقدره، وهذا عمًى في بصر الإيمان ، ويكفيه جُرمًا أنه شارك إبليسَ في الحسد.
والعلاج يكون بعدمِ الاشتغال بالنظر إلى النعم التي أنعم الله بها على غيرك، والنظر فيما أنعم الله عليك من خير؛ فإنَّ تذكُّرَ نعم الله على النفس يُعينُ على الشكر، وفي كثرة تطلُّعك إلى ما عند غيرك ضررٌ عليك؛ لأنك ربما يَقَعُ لك الحسد، أو على الأقل عدمُ شكر نعمة الله عليك، وازدراءُ نعمه؛ ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
3- الرياء : قال ابن تيمية رحمه الله: إن الإخلاص أهمُّ أعمال القلوب المندرجة في تعريف الإيمان وأعظمها قدرًا وشأنًا، بل إن أعمال القلوب عمومًا أكبرُ وأهمُّ من أعمال الجوارح، ولا يَغترَّ المسلم؛ فإن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة له ولا ثواب، بل صاحبُها مُتعرِّضٌ للوعيد الشديد.
يقول ابن الجوزي: "ما أقلَّ مَن يعمل لله تعالى خالصًا! لأن أكثر الناس يُحبُّون ظهور عباداتهم، فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه من قلوبهم بالعمل وإخلاص القصد، وستر الحال- هو الذي رفع مَن رفع".
هذه بعض الأمثلة والآفات التي تصيب القلبَ وغيرها كثير، وكلُّ إنسان أعلَمُ بنفسه وبما ينطوي عليه قلبه، بصيرٌ بنفسه، عالم بآفاتها، فليغتنم هذا الشهر المبارك، وما يكون فيه من انبعاث للقلب نحو الطاعة؛ ليقف مع نفسه وقفةً صادقة يُطهِّرُ قلبه من آفاته؛ ليصبح صافيًا نقيًّا قابلاً للخير.
ومما يُعين على تصفية القلب من شوائبه:
• التوبة وكثرة الاستغفار .
• محاسبة النفس ومجاهدتها؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
• المحافظة والمسارعة في أداء العبادات والفرائض.
• الإكثار من ذكر الله عز وجل.
• البعد عن مواطن الفتن والشبهات.
فهل لك أن تُحقِّق لنفسك السعادة في لحظةِ صدق ومحاسبة تجلسها مع نفسك استعدادًا لهذا الشهر المبارك؟ فلعل يكون فيها سعادتك وفلاحك في الدنيا والآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يبلِّغنا رمضان، وأن يبارك لنا فيه، ويرزقنا فيه قلبًا سليمًا خاليًا من كل آفة وشبهة، وأن يوفِّقَنا فيه إلى عبادته على الوجه الذي يرضيه عنا.
دينا حسن ( أم سهيلة )