أرشيف المقالات

الذكر عند غلاة الصوفية

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الذكر عند غلاة الصوفية
 
الذكر من أعظم العبادات التي يتقرب بها المؤمن لربِّه جل جلاله، وهو مطالَب بذكر الله في كل الأوقات بقلبه ولسانه وجوارحه، وعليه أن يلتزم في ذكره بحدود الشريعة وسُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذكر من العبادات التوقيفية التي لا مجالَ فيها للاجتهاد، ولا يجوز التقرب إلى الله جل جلاله بعبادة لم يَشْرَعْها، ومن فعل ذلك فقد بطل عمله؛ لأنه ابتدع في دين الله، وخالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
 
وقد انتشرت بين الناس كثيرٌ من البدع في الذكر، كما هو الحال عند غلاة الصوفية، فرأيت أن أكتب هذا المقال لبيان حقيقة الذكر عندهم؛ حيث اتخذ مشايخهم أذكارًا لم تَرِدْ في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يخدعون بها عباد الله، فيُفسدون عليهم عقائدهم، ويحيدون بهم عن طريق الحق القويم.
 
الذكر في اللغة: ذَكَرَ: الذِّكْرُ: الحفظُ للشيء تذكُّره، والذكر أيضًا: الشيء يجري على اللسان، والذكر: جريُ الشيء على لسانك[1]، الذِّكر بالكسر: الشيء الذي يجري على اللسان[2].
 
الذكر اصطلاحًا: الذكر يُقال اعتبارًا لحضور الشيء القلبَ أو القولَ، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان[3].
 
عرفه المباركفوري بقوله: "الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها؛ مثل الباقيات الصالحات؛ وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وما يلتحق بها من الحَوْقَلَة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة"[4].
 
الذكر في اصطلاح الصوفية: هو تردد اسم المذكور على القلب واللسان، وقيل: امتلاء القلب من المذكور، وقيل: طمأنينة بمعاينة الله، وقيل: طلوع الأنوار برؤية القهَّار، وبلوغ الأماني بسرٍّ وجدانيٍّ[5].
 
مما سبق من تعريفات للذكر، نجد أن الذكر ينقسم إلى ذكر باللسان، والقلب، والجوارح، أما عند غلاة الصوفية، فيقتصرون على الذكر باللسان والقلب، مع تفضيل الذكر بالقلب.
 
أنوع الذكر عند غلاة الصوفية:
النوع الأول: الذكر بالقلب:
من المعلوم أن الذكر من أفضل العبادات وأجلِّها، وحتى يكون الذكر مقبولًا عند الله جل جلاله، لا بد أن يكون باللسان والقلب والجوارح، وهذا منهج أهل السنة والجماعة، أما غلاة الصوفية، فإنهم يفضِّلون الذكر بالقلب على الذكر باللسان؛ كما جاء نصًّا في كتبهم، (فصل في الذكر القلبي وأنه أفضل من الجهري): "اعلم أن الذكر نوعان: قلبي، ولسانيٌّ، ولكل منهما شواهد من الكتاب والسنة، فالذكر اللساني: باللفظ المركب من الأصوات والحروف، لا يتيسر للذاكر في جميع الأوقات، فإن البيع والشراء، ونحوهما يُلهيان الذاكر عنه ألبتة، بخلاف الذكر القلبي، فإنه يكون بملاحظة مسمَّى ذلك اللفظ المجرد عن الحروف والأصوات، وإذًا فلا شيء يلهي الذاكر عنه"[6].
 
وفي نفس المصدر عن تفضيل الذكر القلبي قال: "إن الوقوف القلبي هو عبارة عن حضور القلب على الحقِّ على وجه لا يبقى للقلب مقصود غير الحق سبحانه، ولا ذهول عن مبنى الذكر وهو من شروط الذكر التي لا بد منها ...
إلى أن قال: فإن خلاصة الذكر والمقصود منه هو الوقوف القلبي"[7].
 
الرد على الغلاة بخصوص الذكر بالقلب:
ذكر الله تعالى كما ذكرنا لا بد أن يكون باللسان والقلب والجوارح، أما تفضيل القلب على اللسان، فهذا مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة، فالمؤمن يذكر الله بلسانه وقلبه وجوارحه في أي مكان في البيت، والعمل، والسوق، وينبغي للمؤمن الإكثار من ذكر الله في السوق؛ لِما في ذلك من خير وأجر عظيم؛ فهو في ذكر، والناس في غفلة.
 
وقد ناقش بعضُ الباحثين مسألة تفضيل الذكر بالقلب؛ فقال المبارك فوري: "من أراد المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه، كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفُّل بالصلاة، ثم الذكر يقع تارة باللسان ويُؤجَر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط ألَّا يقصد به غير معناه، ولمن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فُرِض من صلاة أو جهاد أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوبة، وأخلص لله تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال كذا في الفتح"[8].
 
النوع الثاني: الذكر المفرد:
هو ذكر اللهم الله (الله) هو أقوى أنواع الذكر تحقيقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، في رأيهم.
 
وهو الذي تقوم عليه الحَضَرات؛ حيث يذكرون الله قيامًا أو قعودًا مع التمايل بحركات تناسب كل اسم من الأسماء، أو طبقة الصوت التي يذكر بها الشيخ سواء بمزمار، وربما بمنشد، بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ويستلهم المدد من مشايخ الطريق الأحياء، والمتنقلين إلى الدار الآخرة، كما أن هناك أسلوبًا معينًا يصاحب الذكر يختلف باختلاف الاسم فذكر (الله، الله) يصاحبه حركة الرأس من أعلى، وإلى الخلف، ثم تتحرك الرأس كأنها تضرب الجسم إلى أسفل[9].
 
الرد على الغلاة بخصوص الذكر المفرد:
إننا لو بحثنا في سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد تركيزًا على ذكر الله بالاسم المفرد، ولم نجد أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم ذكر الله بهذه الطريقة، فذكر الله بالاسم المفرد من الضلالات والبدع التي وقعت بها الصوفية.
 
وقال شيخ الإسلام: "الذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة، وأقرب إلى ضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو، أو هو هو، ونحو ذلك، لم يكن الضمير عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنف صاحب الفصوص كتابًا سماه كتاب (الهو)، وزعم بعضهم أن قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو (الهو)، وإن كان هذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك: لو كان هذا ما قلته، لكُتِبت الآية: وما يعلم تأويل (هو) منفصلة[10].
 
النوع الثالث: الذكر الجماعي:
الذكر الجماعي: هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في أدبار الصلوات المكتوبة، أو في غيرها من الأوقات والأحوال؛ ليرددوا بصوت جماعي أذكارًا وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد[11].
 
ومما ورد عنهم ما قاله التجاني: "من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة، وإن كان له إخوان في البلد، فلا بد من جمعهم وذكرهم جماعة، وهذا شرط الطريقة"[12]، وقال الشعراني: "...
واعلم يا أخي أن من جملة اللين أنك إذا دخلت على جماعة يذكرون الله على طريقة المغاربة أو الرفاعية أو غيرهم، أن تذكر كأحدهم النغمة والصوت، ولا تخالفهم، فتشوِّش عليهم، ولا تسكت فيفوتك الأجر"[13].
 
الرد على الذكر الجماعي:
استدلالهم بالذكر الجماعي كما ذُكر عنهم مخالفٌ لهَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يُنْقَل عن النبي الاجتماع للدعاء جهرة مع أصحابه، ولم يحث الناس عليه، فالذكر الجماعي ليس له أصل وهو من الأمور المبتدعة في الدين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ))[14].
 
وقال الشاطبي: "الدعاء بهيئة الاجتماع دائمًا لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"[15].
 
أما اجتماع المسلمون في المسجد للوعظ، أو لتلاوة وتفسير كتاب الله، فليس ذلك من البدع، ويوجد أحاديث كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحثِّ على مجالس الذكر.
 
والخلاصة: أن الذكر عند غلاة الصوفية له مفاسدُ عظيمة؛ منها مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والتشويش على المصلين، والذكر بصوت واحد تشبُّه بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد، والخروج عن السمت والوقار؛ ففي الذكر الجماعي قد يتسبب في التمايل، والرقص، وهذا لا يجوز شرعًا.

[1] انظر: لسان العرب، 4/ 308.

[2] القاموس المحيط، ص 357.

[3] المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، 328.

[4] تحفة الأحوذي، 9/ 222.

[5] دائرة المعارف، البستاني، ص1884.

[6] تنوير القلوب، ص 567.

[7] المصدر السابق: ص 567.

[8] تحفة الأحوذي 9/ 222.

[9] عقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة: محمود المراكبي، ص 429 - 430.

[10] العبودية، ابن تيمية، 138-139.

[11] كشف شبهات الصوفية، شحاتة صقر، ص145-146.

[12] تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد لوح، ص 336.

[13] المصدر السابق، ص 336.

[14] صحيح البخاري، كتاب الصلح، 2/ 170، ح 2697.

[15] الاعتصام، ص 452.

شارك الخبر

المرئيات-١