أرشيف المقالات

مشروعية المظاهرات: إحياء للسنة وتحقيقا لمقاصد الشريعة - محمد الأحمري

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .

ملاحظة العصر: نعيد نشر هذا المقال، الذي كُتب في ظروف قديمة وزمن قديم (في 24 محرم 1423 هـ الموافق لـ6 أبريل 2002م)، ولكن الوضع متشابه، والقضية مطروحة مجددا.

الحمد لله الذي بين الهدى للناس بآي قرآنه، وسنة نبيه قولا وفعلا، وصلى الله على رسوله الذي أظهر الحق وناصره ودعا لإظهاره إلى يوم القيامة ، أما بعد:
فقد نزلت هذه الشريعة لتكريم الإنسان وهدايته، وبيان لطرق عزته، ورفع الظلم عنه، وزرع الحرية في قلبه وسلوكه، وإلزام مجتمعه بذلك، فيعبّد لله ليرتفع فوق ما سواه، ويتهاوى ظالموه، ويذل محتقروه.
وأول مباني الرجولة كلمة حق يقولها صادق في وجه ظالم مفسد، وهي أصدق وأبلغ عندما يبلغّها شعب كامل، فالآلاف التي جأرت بالحق في عدد من مدن الإسلام وغيرها هذه الأيام أحيت الوحدة والقوة وأنذرت عصابة الدمار والإفساد بنيران سخط كامل من قبل ربع البشرية من المسلمين ومن غيرهم.

من المحيط إلى بغداد ثوار *** شعب تزمجر في أحشائه النار :

وأي إعلاء لمشاعر الإسلام في زمن الضعف خير من زمجرة الملايين تستنكر الظلم والفساد، وتهيج على جور الصهيونية وشؤمها، وتحارب الجريمة والرذيلة.
فكلمة الحق واجب وشعيرة، وإذا كان اظهار الفرح بالعيد وجمع الناس سنة، حتى على من ليست الصلاة في حقه واجبا ولا سنة، فيخرج تكثيرا لسواد المسلمين، وابتهاجا بما يسرهم جميعا، فكيف لا نقف مع إخواننا الذين يجزرون كالأغنام، وتسوى بدورهم الأرض، وتنتهك حرماتهم، ويقتل أطفالهم ونساؤهم، ثم يحظر قوم على المسلمين أن يجأروا بالشكوى لله ويخرجون في الصعدات، يدعون، ويهددون، ويخيفون، ويظهرون قوة الدين، ونصرة العدل، وتضامن المسلمين، فإنهم إن فقدوا السلاح والحماية والعدة فما زالوا يملكون حناجرهم وأجسامهم يعلنون بها رفض الظلم وانكار الفساد، وهذا أقل ما يجب عليهم فعله، إنهم لا يملكون سلاحا، ولا يملكون مالا، ولا يملكون دولا، ولا رجالا تمنع حرماتهم، ولم يبق إلا الصوت والصدى فهل ستبخلون حتى بهذا وتمنعوه؟

عجبا!!، لقد دمر الذل القلوب ، وسحق الجهل العقول، فأصبح قوم يننتظرون من الباغي فتوى أن يسمح لهم بأن ينكروا فعله، ومن العدو إذنا بالإعتراض عليه.
وقوم يهجرون ما يعرفون من سنة نبيهم، وما تظاهرت عليه النصوص وصححته العقول، وعليه عمل علماء الزمان، ويقفون منها موقف من يختار الذل والخنوع منهجا يسميه حكمة، ويسمون الذليل فاهما، فإن كان حديثا حبيبا لبعض القلوب المرعوبه، مؤداه منسجم مع أهوائهم لفقوا له تصحيحا، وإن كانوا لا يحبونه لفقوا لرده سبلا عديدة، ولم تنقصهم وسيلة، ولم ولن تنقص ذا هوى حيلة.

ولكن الحق أبلج، شواهده في القلوب قبل شواهد الفتاوى والكتب، وهذه بعض شواهده لمن أعرض عن الوعي، وأغلق القلب والعين.
وإني هنا أذكر لكم أمورا مما ورد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تقرر في دينه من أصول وقواعد وما فهمه العلماء ونفذوه قولا وعملا:

1- فمن المعروف أن العالم كله يشاهد ما يحدث في مدنكم، ويهتم به غاية الإهتمام ويقرأ توجهاتكم وقناعاتكم، وقد لا ينساق لموقف واحد صغير، ولكن مواقف صغيرة كثيرة تدل على شيء آخر، والمظاهرات الأخيرة في البلاد العربية والإسلامية وغيرها، كان لها وقع السلاح على من يحرص أن يبيعكم سلاحا، يتقوى به البائع، وتجوعون به وتذلون، ولا يكشف عارا، ولا يحمي ذمارا، ويحرص أن يبيعكم متعا ولباسا وطعاما، ولكن غضبكم يخيفه، وقد يجيعه أو يفسد بضاعته يوما عاجلا أو آجلا.
يوم يعرف أنكم غضبتم وأنكم تعنون ذلك.
فقوته من مالكم، وسيادته من عبوديتكم، وتجبره من خنوعكم، فما سار تيار كهرباء في الدنيا إلا بخط سالب وخط موجب، فإن غير السالب عادته، وتمرد على خنوعه انهارت قوة الموجب، لو كففنا عن عبوديتنا لتعامل معنا العالم بشكل آخر تماما، نحن نملك أن نخرج ونتكلم، وقد نتضرر..
ولن نقتل فلم الذل الماحق؟، وقد أصيب أعداؤكم بالكآبة لما رأوا من تظاهراتكم، كما أصيبت قريش من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مظاهرة بين صفين على أحدهما حمزة وعلى الآخر عمر، إظهار قوة بلا حرب، وعزة بلا مواجهة.

2- وما ترون من قتل إخوانكم فهو منكر يجب عليكم إنكاره، ولا يد لديكم فليقم اللسان بهذا وأنتم تملكونه، فإن فقدتموه فماذا بقي إلا القلب ولكن لا تنتقلوا تبّاعين للهوى معرضين عن قاعدة تغيير المنكر التي ترتب مراتب التغيير، باليد ثم اللسان ثم القلب، وما دمتم بلا يد فلا تعجزون عن أرجل تسير وحناجر تصرخ بالظالمين.

3- نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بالصحابة في مظاهرة لإظهار قوة المسلمين وكثرة عددهم بعد إلحاح الصحابة على ذلك، قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: "لقد ذكرت المظاهرات في معرض الوسائل التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإظهار الإسلام، والدعوة إليه لما روي أن المسلمين خرجوا بعد إسلام عمر رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفين (إظهاراً للقوة) على أحدهما حمزة رضي الله عنه، وعلى الآخر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولهم كديد ككديد الطحين حتى دخلوا المسجد.

ولم أر لذلك من هدف إلا إظهار القوة، وقد روى هذا الحديث أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: فقلت: يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم»، قال فقلت: "ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن"، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد، قال فنظرت إلي قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق .
وفرق الله به بين الحق والباطل" انتهى (حلية الأولياء 1/40).

وأورده صاحب الإصابة في أسماء الصحابة هكذا: "وأخرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه بسند فيه إسحق ابن أبي فروة عن ابن عباس أنه سأل عمر عن إسلامه فذكر قصته بطولها وفيها أنه خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة وأصحابه الذين كانوا اختفوا في دار الأرقم فعلمت قريش أنه امتنع فلم تصبهم كآبة مثلها، قال فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق" انتهى (الإصابة 2/512).

وذكره ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتح الباري قائلاً: "وروى أبو جعفر بن أبي شيبة نحوه في تاريخه من حديث ابن عباس، وفي آخره "فقلت يا رسول الله ففيم الاختفاء؟"، فخرجنا في صفين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، فنظرت قريش إلينا فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها"، وأخرجه البزار من طريق أسلم مولى عمر عن عمر مطولاً" انتهى (فتح الباري 7/59).

ولكنني وجدت بعد رسالتكم أن مدار هذا الحديث على إسحق بن عبدالله بن أبي فروة وهو منكر الحديث.
وكنت أرى أن التشريع الإسلامي قد جاء بكثير من الشعائر لإظهار عزة الإسلام والدعوة إليه، كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، ورأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر النساء الحيّض وذوات الخدور أن يخرجن إلى المصلى يوم العيد معللاً ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين» [رواه أبو داود وصححه الألباني ]، ومن الخير الذي يشهدنه هو كثرة أهل الإسلام وإظهارهم لشعائره، وكذلك كان الرسول يرسل البعوث والسرايا ومن أهدافها الأساسية (عرض القوة)، كما قال لأسامة رضي الله عنه: «أوطيء الخيل أرض البلقاء‍‍»..

فهذا هو الذي جعلني أنسب هذا النوع من التظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعني إلا ما جاء في هذه الأحاديث من إظهار عزة الإسلام، وكثرة المسلمين، وهذا باب من أبواب الدعوة إلى الله.
وكنت أرى أن هذا الأسلوب يمكن استخدامه استخداماً صحيحاً في الحض على صلاة الجمعة والجماعة، والحض على صلاة العيدين في المصلى خارج المدينة وحث الرجال والنساء على الخروج لهذه الصلاة الجامعة وكذلك جمع الناس بين الفينة والأخرى للأمور الهامة التي تنزل بالمسلمين كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل إذا نزل بالمسلمين أمر فيقول الصلاة جامعة، وكذلك في المحاضرات والندوات الحاشدة التي يكون من مقاصدها ـ بعد تلقي العلم ـ إظهار كثرة المهتدين، وجمهور المسلمين، وكذلك في عرض قوة أهل الإسلام في جيوشهم الحربية وآلاتهم العسكرية، لأن كل ذلك مما يكسر قلوب العدو، ويرهب أعداء الله، ويعلي منار الإسلام".

ولما احتج عليه الشيخ ابن باز بضعف أحد الرواة، وتنازل الشيخ عن لفظ مظاهرات كما بينه فيما بعد، وقد سألته آن ذاك فأظهر لي الشيخ عبد الرحمن أنه تعرض لفتنة من سفهاء أساءوا له وشنعوا عليه، ولا يحب أن يظهر عند الناس آنذاك أنه يخالف الشيخ ابن باز، وبخاصة مع كثرة الخصوم، والشامتين به، زمن ارتفاع أصوات أهل الفتنة والمخرقة، أما هو فلم يزل يعتقد بما كتبه في الكتاب أول مرة، وعرض أن يكتب أحد غيره تأييدا لرأيه الأول ذاك، وهو الآن حي يرزق ويمكن سؤاله، ثم أيد رجوعه بفعله فقد خرج بعد ذلك في عدة مظاهرات بجواره الشيخ حامد العلي والشيخ الشايجي والشيخ الطبطبائي وغيرهم من العلماء، في محافل معروفة وصور موثقة، ثم إن فيما سبق وما سيأتي حجة مغنية عن الوقوف عند هذا، واثبات عملي بعد القولي بتراجعه عن القول السابق، وفي قول وفعل جلة علماء العصر وهو منهم كفاية.

4- أن المظاهرات وسيلة لها أحكام الوسائل، والأصل في الوسائل الإباحة، وما يتلبس بوسيلة مباحة من مخالفة فالوسائل لها أحكام المقاصد، فمالذي يقصده المسلمون بهذه الوسيلة إلا إظهار الحق، ورفض الظلم، وكشف الخيانات اليهودية، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله، كما ان في هذا صناعة وحدة في الموقف ورأي للأمة.

5- جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال اطرح متاعك على الطريق فطرحه، فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا رسول الله ما لقيت من الناس"، فقال : وما لقيت منهم؟ قال: "يلعنوني"، قال: لقد لعنك الله قبل الناس، قال: "إني لا أعود"، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارفع متاعك فقد كفيت.
ورواه البزار بإسناد حسن بنحو إلا أنه قال: "ضع متاعك على الطريق أو على ظهر الطريق" فوضعه، فكان كل من مر به قال: "ما شأنك؟"، قال جاري يؤذيني فيدعو عليه فجاء جاره فقال: "رد متاعك فلا أؤذيك أبدا".
و"روى" أبو داود واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه على شرط مسلم: (جاء رجل يشكو جاره فقال له: «اذهب فاصبر»، فأتاه مرتين أو ثلاثا، فقال اذهب فاطرح متاعك في الطريق ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه ويخبرهم خبر جاره فجعلوا يلعنونه فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه فجاء إليه جاره فقال: "ارجع فإنك لن ترى مني شيئا تكرهه" (كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر باب الصلح، الكبيرة العاشرة بعد المائتين: إيذاء الجار ولو ذميا).

6- وإن الصوت والإعلام والضجيج نصف الحرب، ومن شهد الحرب الإعلامية التي يمارسها اليهود في أمريكا، علم مقدار أهمية هذه المظاهرات وخطورتها في العصر الحديث، إن الإعلام الأمريكي يخفي خبر المظاهرات الإسلامية ولا يذكرها، وإن ذكرها أحدهم قلّل جدا من قدرها، ولكن تقاريرها تصل ذوي القرارات النهمة، وهم يعلمون أنها تعمل في النفوس عملا مروعا للبغاة، فهي بدايات مخيفة، وهي حقيقة قد تؤدي أن يتجاوب الناس معها.

وقد هرع حكام العرب لأمريكا يستنقذونها ويطلبونها الكلام أو الإحتجاج بما يكف الاضطراب، أو عدم الاستقرار، وبدأ الحديث عن الخوف من سقوط الحكومات الموالية لإسرائيل.
ولولا شعور العالم بدلالات المظاهرات لما تغيرت المواقف، أو لما خفف المفسدون في الأرض خوفا من مضاعفة الموقف. فكيف تخذلون إخوانكم حتى في عمل كهذا؟، فلا تبخلوا بكلمة حق لا تضير، وقد تنفع كثيرا، فالمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله، والذين لا يستنكرون ولا يتظاهرون ولا يتكلمون ولا يكتبون، قد أسلموا إخوانهم، وتهاونوا بحقوقهم، ثم إنكم لا تعلمون أثر المناصرة والمظاهرة في نفوس إخوانكم عندما يعلمون أن هناك من انتصر لهم واستنكر الجرائم المقترفة في حقهم.

7- أما الذين يقلدون رجالا صالحين لهم خير كبير، ولكنهم يخطئون فيما لا يدركون، فإن عليهم أن يتقوا الله، ويخرجوا من ربقة العصمة لمشائخهم، واتّباعهم في الخطأ والصواب، فهذه مصادمة للحق بالرجال، وأنتم تعلمون أن هؤلاء الأفاضل قد دفعتهم نيات صالحة فقالوا قولا ربما كان صوابا آنذاك في زمن غير الزمن، وفي حال غير الحال، فعليكم أن تتبعوا فقه السلف وهديهم، في تقدير الأمور، ووعي العالم المحيط، فالسلفية إما أن تكون فترة تاريخية غابرة، فتلك قد انقضت، وإما أن تكون منهجا حيا متجاوبا مع مقتضيات الزمن، فهذا أوان العلم والعقل. فإن أولئك العلماء أنفسهم الذين تحتجون بهم كانوا يمنعون في شبابهم الراديو والتلفاز، وفي أواخر أعمارهم تبين لهم خطؤهم وتراجعوا، وإنا لا نملك لكم أن نبعثهم فيعتذروا لكم عن خطأ لم يعد الإصرار عليه صحيحا، ولا مناسبا، ولكننا نناشد القلوب الحية، والعيون التي ترى، والعقول التي تعي أن تخرج من ضيق التاريخ إلى نهج الشريعة، وتهاجر إلى هذا الزمان ثم تعرف ما يدور، ومن جمد فلن يجمّد العالم ولن يغلق إلا فهمه ولن يضر إلا نفسه، إن اتباع الرسول ص غاية في المعاصرة، والمتابعة للزمان، وهي منهج متحرك وليست صورة تاريخية جامدة.

8- دليل فعل العلماء: ومن فعل العلماء، ما تعلمونه من فعل الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وجميع علماء السلفية في الكويت، خرجوا جميعا في مقدمة صفوف المظاهرات التي احتجت على المفسدين في الجامعة وغيروا القرار بمظاهرتهم، ثم تظاهروا عدة مرات، ويتكرر هذا منهم ولا يجرؤ أحد على نقض ذلك، وتظاهر علماء الجزائر ودعاتهم مرات عديدة يتقدمهم محمد السعيد وعلي بلحاج، وعباسي مدني وبقية من العلماء المسنين الذين كانوا أعضاء جمعية العلماء، ومن قبل هذا مواقف علماء المسلمين في أغلب بلاد المسلمين، إن لم يكن كلها.
قديما وحديثا، وقد خرج علماء الشام في مظاهرات يقودهم الشيخ القصاب ضد موقف الملك فيصل الشريف عندما تراخى عن الحرب للفرنسيين، وأيدهم رشيد رضا عددا من المظاهرات في زمنه، وخرج علماء الأزهر في المظاهرات ضد الإنجليز في عام 1919م.

وفي الجزيرة العربية، خرج الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله ـ والد رئيس مجلس الشورى ـ بأهل القصيم في مظاهرة بشأن مشكلة في مدارس البنات، وخرج الشيخ سلمان العودة منذ سبع سنوات مع العلماء والعامة احتجاجا على منعه من الكلام، وخرج معه جمع كبير من العلماء والدعاة، ولم تننتقد المظاهرة لذاتها بل الذين انتقدوا إنما كان نقدهم على التوقيت، أو احتمال الفوضى، ثم خرج أخيرا الشيخ المبارك بأهل المنطقة الشرقية، وقاد الشيخ القرضاوي عددا من المظاهرات، وهو يقود المظاهرات في الدوحة في كل حدث ملم، وفي السودان يخرج علماؤهم للمظاهرات، منها مظاهرات في أعقاب ضرب بلادهم قبل بضع سنوات، وفي بلدان العالم الإسلامي من العلماء المؤيدين ما لا يحصى عددا، فهل نستبعد علماء كعلماء الباكستان "المودودي، واليمن "الزنداني" وكثيرون من الشام ومصر وغيرها.

ولسنا بصدد تحقيق الحق والباطل في خطاب المتظاهرين، ولكن النقاش في شرعية العمل، فقد دلت الأدلة الشرعية على صحتها وفعلها منذ عهد النبوة، ومارسها العلماء الموتى والأحياء من شتى المدارس ومن المدرسة السلفية تحديدا، ومن أشدهم تمسكا.
ولم يزل علماء العصر يخرجون في كل مكان ينبذون الظلم والفساد وينكرون على الطغاة، وعلى المفسدين في الأرض، فإن منع علماء الخروج على الحكام، فلم لا يجوز حتى الصراخ في وجوه اليهود المحتلين العنصريين القتلة!.
أما المفاسد التي تحتمل من هذا العمل فصحيح أنها قد تقع، ولكنها مفاسد محتملة، والمصلحة متيقنة، فلا يسقط اليقيني بالمحتمل، واظهار الحق وشعائر الدين ومناصرة الحق واجب لا يسقطه احتمال أذى، ثم إن خروج العلماء والزعماء في هذه المظاهرات مما يعطيها وزنا وأهمية، ويرشدها ويبعدها عن الفساد، ويؤكد السلطة والاحترام لقادة المظاهرات ورعاة مصالح الأمة.

9- أما رأي المخالفين، فهو منطلق من الخوف من تهمة الخروج على الحاكم، وهذا شأن آخر، لأن هذا الخروج في المظاهرات على ظلم اليهود لا علاقة له بالخروج على ظلم الحكام، وليس معهم أدلة منع تعوق ما سبق، وهذه وسيلة أصلها الإباحة، وقد أشكل على بعضهم عدم ورود اللفظ، فلنسمها مناصرة، ونفرق بينها وبين المظاهرة، ثم نقول هذه المناصرة للمظلومين في كل أرض، وتحت كل سماء، والمظاهرة ضد العدوان الداخلي، ثم يقوم من يهمهم هذا "التفريق الجديد" بتحريم "المظاهرات" وإباحة "المناصرات". أما هذه الحال القائمة المانعة لإظهار الدين والمناصرة والأخوة والتعاطف فليست من الدين في شيء وليست من العلمانية في شيء.

10- لقد أصبح التظاهر مقياسا من مقاييس الرأي عند الأمم مسلمها وكافرها في هذا العصر، فنحن لا نعلم رأي أمة من حكامها ولا من إعلامها الذي قد يسيطر عليه حزب أو قلة لا تخدم مصلحة الأمة ولا تحرص عليها، ولا نعلم من قال ممن لم يقل ومن وافق ومن خالف، فهذا قياس مهم لموقف الأمة واستنكارها لباطل أو مناصرتها لحق.

11- وقد تعطلت في الحياة الإسلامية وسائل قياس الرأي العام، كالتي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يرى الناس يوافقن على رأيه في اعادة الغنائم، فيقول إني لا أعلم من رضي ممن لم يرض فاذهبوا "وليأتني عرفاؤكم بالخبر"، فقد كان هناك عرفاء للمجتمع، ينقلون إليه ومنه الموقف والرأي، ويتفقدون مجموعاتهم ويعرفون قرارهم وما يحبون، وهذه طريقة مبكرة رائعة في قياس الرأي، والإستشارة والتصويت على موقف.
وما دام هذا الأمر غير موجود اليوم فإن إظهار الرأي مهم لمعرفة القرار أو دفعه باتجاه محدد، أو صناعة رأي عند غير ذوي الرأي وتأييده.

12- وهناك دائما وسائل جديدة، لا تخالف الشرع، وقد لا تكون عرفت قديما لأن التكوين الإجتماعي والسياسي للمجتمعات قديما لم يكن يعرفها ولا تتناسب معه، مثال ذلك العصيان المدني، وهو عصيان في غاية السلمية، ولكنه مدمر لمصالح المستعمرين، وقد ساهم بدور كبير في استقلال الهند عندما استخدمه غاندي بذكاء كبير، وهو لم يخترع النظرية، ولكنه طبق فكرة مقال قرأه، وكانت ظروف بريطانيا بلا شك مساعدة على انهاء هيمنتها.

13- تبين جدوى هذه المظاهرات الكبيرة في رفع الأذى عن شعوب عديدة عبر التاريخ، وآخر شواهد ذلك ما رأيناه في إفريقيا الجنوبية ونيل سكانها الحرية بوسائل منها المظاهرات، كما حدث في أندونيسيا عندما خرج المتظاهرون وأبعدوا سوهارتوا ونظامه الفاسد، وما حدث من تظاهر اليوغسلاف ضد الطاغية سلوبودان ميلسوفتش، واستطاعوا تحرير أنفسهم بالخروج في مظاهرات عارمة وذهبوا إلى البرلمان، واسقطوا الصنم، وصانوا دماءهم وأعراضهم وكرامتهم من جوره، وفي التاريخ شواهد لا تحصى لفائدة هذه المظاهرات.

ثم لو تأملنا إنهاء الاستعمار في أغلب المستعمرات حول العالم في بلدان مسلمة وغيرها، من الهند إلى الفلبين إلى سوريا ومصر وشمال افريقيا وإيران والعراق لوجدنا المظاهرات ذات أثر مشهود لا يناقش فيه عاقل، فهي من أهم الوسائل ولا يعني أنها وسيلة حق معصومة من الخطأ، ولكن الذين يناقشون بأنهم عندما اختفوا في جحورهم لم يصدر منهم خطأ أبدا، وهذا حق لهم لا نعارضه، ولا ندعي عليهم بأنهم فعلوا شيئا، ولكن من يبني أمة وينقذ موقفا ويصنع نصرا، ويتبع محمدا صلى الله عليه وسلم ورجال العلم والعمل فلا شك أنه سيقع في أخطاء لن يقع فيها أبدا المعصومون من العمل ومن الخطأ ومن الصواب، وسيجدون كل الشواهد الباطلة والصحيحة على خطأ العاملين، وتقصيرهم وتعثرهم، والماشي يخطئ الطريق أحيانا ويقصر، ولكن حسبه أنه شمر واجتهد، والقاعدون لا عيوب ولا فضائل.
أما العاملون فيحصل منهم الخطأ ويصابوا، ومن ظهر عمله بان خطؤه، ورأى الناس عيوبه، ولكنه يحرك بخيره غيره، وهو أجدر بالعلم وبالفقه، ومعرفة الحق من الخطأ، ووعي مقاصد الشرع، وإدراك روح القرآن بعمله بكتاب ربه من كل متفلسف كليل.

14- والتظاهر مع الحق، وضد الباطل سنة مشروعة جارية، سنها الله في إظهار الإنكار على الفساد في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [ سورة النور : 2]، وسنها في الابتهاج بالأعياد، واستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوديعه للغزاة حين خروجهم والاحتفال بهم حال عودتهم، وفي إظهار القوة كما فعل مع أبي سفيان فألزمه رؤية قوة المسلمين، وقطع الطريق عليه أن يفكر في إمكان مواجهة القوة الضاربة للإسلام، ومن قبل طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائفين أن يهرولوا في الطواف اظهارا لقوة وصحة أجسامهم، مما يراجع تفصيله في فقه الحج وفي السير.

وإن لم نظهر موقفنا وحميتنا وصوتنا وتعاطفنا مع إخواننا المقهورين وحمانا المنتهك فما ذا بقي؟ فاظهار الحق، بكل وسيلة وغمط الباطل بكل وسيلة، في عموم ما ذكر، مما تواترت على مشروعيته الأدلة تواترا معنويا، وهي سنة في الإسلام قائمة.









شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣