في الأدب الشرقي
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الأدب الفارسي والأدب العربي
للدكتور عبد الوهاب عزام. أستاذ بكلية الآداب (2) ولا ننسى بعد أن اللغة الفارسية بقيت لغة الدواوين المالية في إيران حتى زمان عبد الملك بن مروان. ولا ريب أن اللغة الفارسية بقيت لغة التخاطب في إيران بين العامة على الأقل، ولا سيما في القرى والنواحي البعيدة، فأنا قد وجدناها منذ القرن الرابع ترتقي إلى أن تكون لغة الآداب؛ واللغة لا تموت جملة واحدة ولا تخلق جملة واحدة.
على أن كثيراً من الدلائل يثبت إنها كانت لغة الكلام في هذه الفترة أي قبل عصرها الأدبي الحديث، وقد انتقلت منها كلمات كثيرة إلى البلاد العربية مع النازحبن من الفرس وتأثرت بها لهجات بعض العرب. فرسل عبد الملك بن مروان إلى المختار بن أبي عبيدحينما جاءوا معسكر ابن الأشتر , ,، لم يسمعوا كلمة عربية، وعبد الله بن زياد وهو أمير عربي كانت فيه لكنة فارسية (أخذها من زوج أمه) (والفرس الذين عرفوا العربية لم يخلصوا من لغتهم ولهجتها) وقد روى الجاحظأن الحجاج قال لنخاس فارسي: أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ فقال: (شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مدائنها وكما تجيء تكون) قال الحجاج ويحك ما تقول؟ فقال بعض من كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك: يقول شركاؤنا بالأهواز والمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب فنحن نبيعها على وجوهها.
وأبو مسلم الخراساني على فصاحتهالتي جعلت رؤبةابن الحجاج يقول: ما رأيت أعجمياً أفصح منه (كان لا يستطيع النطق بالقاف) وقد رؤى المؤرخون أن إبراهيم الإمامحينما أوصى أبا مسلم قال له: وان استطعت ألا تبقي في خراسان لساناً عربياً فافعل.
مما يدلنا على أن لغة الجمهور كانت فارسية.
ونجد الشاعر العماني يتملح بذكر الألفاظ الفارسية في مدائح الرشيد ويحدثنا الجاحظ أن لغة أهل البصرة بل لغة أهل المدينة كان بها كثير من الكلمات الفارسية في أيامه، يدلنا على بقاء الفارسية وتأثيرها البعيد، ويحدثنا أيضاً أنه سأل خادماً له إلى من أرسل هذا الغلام؟ فقال إلى أصحاب السند نعال: يعني النعال السندية. وأمثال هذا في كتب الأدب كثيرة.
ولأمر ما ثار النزاع منذ أيام أبي حنيفة على قراءة القرآن بالفارسية.
ثم بابك الخرميكما يؤخذ من الفهرست كان لسانه متعقداً بالأعجمية، و (به آفريد) الفارسي المتنبي على عهد أبي مسلم لما أراد أن يضع لأتباعه كتاباً وضعه بالفارسية.
وأنتم تعلمون ما دخل العربية من الفارسية لا سيما في أسماء الطعوم والأثاث.
هذه جملة تثبت أن اللغة الفارسية لم تمت في هذه الفترةإن كان هذا في حاجة إلى الإثبات. وأما الفرس أنفسهم فقد خلطهم الفتح والإسلام بالعرب، أي خلط، فالقبائل العربية انتشرت في الأرجاء الفارسية، والفرس انتقلوا إلى البلاد العربية أسارى أو مهاجرين طلباً للرزق أو العلم أو المناصب.
فالمدينة على نأيها كان بها فرس، وهم قتلوا هنالك عمر وسعيد بن عثمان بن عفان. وسرعان ما تعلم الغرس العربية وشاركوا في العلوم الإسلامية.
ولكن كان للفرس قبل قيام الدولة العباسية حال تختلف عن حالهم بعدها كل الاختلاف. كانت دولة الأمويين عربية وقليل من غير العرب من سموا فيها إلى الدرجات العليا، وكان العرب، لأنهم أصحاب الدين والدولة ولأنهم الذين أقاموا الملكونشروا الدين، يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف على ما كان فيهم من الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم منذ أيام الجاهلية.
فسخط الفرس من أجل ذلك عليهم، ولكن الفرس لم يكونوا قد أفاقوا من دهشة الفتح الإسلامي ولم يكونوا قد تمكنوا في الإسلام واللغة وامتزجوا بالعربامتزاجاً يمكنهم من منافسة العرب، وما كان العرب قد ضعفوا وتغيروا وتفرقوا في الأقطار.
بقي الفرس ساخطين فاستعان بهم الثائرون على الأمويين، فكانوا عوناً للمختار بن أبي عبيد ولعبد الرحمن بن الأشعث، فكان جيش المختار من الموالي إلا قليلاً وقد عتب العرب عليه إذ استعان بالعتقاء من الموالي ثم أعطاهم حظهم في الغنائم.
ولما قال رسل عبد الملك لأبن الأشتر: أجأت تقاتل جيوش الشام بهؤلاء؟ أجاب ما هؤلاء إلا أبناء أساورة الفرس. وإذا نظرنا إلى أن جيش المختار كان أول من ثأر للحسين بن علي وقتل من قتله عرفنا أحد الأسباب التي جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد، فقد كان للعلويين والفرس سواء في كراهة الأمويين فتحابوا.
جاءت الدعوة العباسية وقد تهيأت الأسباب ليأخذ الفرس مكانهم في الأمة الإسلامية فكانوا أخلص دعاة هذه الدولة وإليهم يرجع الفضل في إقامتها، وقد رأى نصر بن سيار في هذه الدعوة خطراً على العرب والإسلام فقال فيما قال: تعزي عن رحالك ثم قولي ...
على الإسلام والعرب السلام كانت الدعوة العباسية خليطاً من الدين والعصبية الفارسية فأبو مسلم كان فارسياُ ومسلماً غيوراً مخلصاً، وقد أسلم من أجله كثير من دهاقين الفرس وهو الذي قتل المتنبي الفارسي سر (به آفريد) حين إنتهز فرصة الدعوة فقام يحيي الزردشتية؛ وكان أبو مسلم قد دعاه من قبل فأسلم وسود.
هذا المزج يتمثل حتى في تسمية أهل خراسان الرماح التي خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافركوب (أي مضارب الكفار) فهو أسم مركب من كلمة عربية متصلة بالدين ومن كلمة فارسية.
وما يتفكه به هنا قول بعض الشعراء: وولهني وقع الأسنة والقنا ...
وكافر كوبات لها عجر قفد بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ...
يسمونني مرداً وما أنا والمرد؟ ومهما يكن فلا أخال البيروني قد أخطأ حين سمى الدولة العباسية (دولة خراسانية شرقية). كان للدعوة العباسية وما عقبها من قيام الدولة نتائج كثيرة، وإنما يعنينا منها ما يتعلق بالفرس، فقد انتعشت الآمال في نفوسهم ومكنت لهم في الدولة وخلطتهم بالعرب خلطاً تاماً وكان من مظاهر هذا الانتصار في بلاد الفرس ظهور دعوات جديدة وثورات: (به آفريد) أنتهز الفرصة لوضع دين قريب من الزردشتية.
فأعجلهأبومسلم وقتله.
وقد أعجب الفرس بأبي مسلم أيما اعجاب، فلما مات أنكر المسلمية موته وقالوا أنه اختفى وسيجئ مهدياً من بعد، ومنهم من قال انه نبي بعثه زردشت وإنه لم يمت كما لم يمت زردشت.
وقد دعا إلى هذا داعية في بلاد الترك يعرف باسم إسحاق التركي ولكنه فارسي.
وقام صديق من أصدقاء أبي مسلم أسمه سنباد يقول: أن أبا مسلم اختفى في صورة حمامة بيضاء، ثم يعلن أنه سيذهب لهدم الكعبة انتقاماً لصديقه، وقد جمع حوله زهاء مائة ألف ولكن ثورته لم تلبث طويلاً.
وتلت ذلك ثورات يوسف البرم والمقنع الخراساني وعلي مزدك، وبابك الخرمي، وأكثرها مصحوب بذكرى أبي مسلم.
ثم جاء القرامطة وفعلوا ما فعلوا وكان منهم ابن أبي زكرياالذي شرع لهم أن من أطفأ النار بيده قطعت يده، ومن أطفأها بفمه قطع لسانه وهذا من أثر الزردشتية.
كل هذه مظاهر تحتاج إلى شرح واستقصاء ولها دلالتها على بقايا العصبية الدينية والجنسية في نفوس الفرس.
هذا في بلاد الفرس، وأما أثره في سياسة الدولة وفي حاضرة الإسلام بغداد فقد كان للفرس الرجحان على العرب عند الخلفاء منذ قيام الدولة، وقد بلغ الأمر غايته حين تنازع الأمين والمأمون فكان المأمون في مرو من أقصى خراسان أشبه بخليفة فارسي وقد أعانه الفرس على حرب أخيه الذي كان يعتز بالعرب.
وروي أن أول شعر فارسي نظم في مدح المأمون كان إذ ذاك.
فلما غلب المأمون تمت الغلبة للفرس، ثم استمروا مسيطرين على الخلفاء حتى أديل منهم لأتراك المعتصم؛ حتى إذا قامت الدولة الفارسية ملك بنو بويه بغداد إلى أن كان طور السلطان التركي فأديل منهم للسلاجقة. ساس الفرس الدولة على قواعد الساسانيين، وقلد الخلفاء وغيرهم الفرس في ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم؛ أم ر الخليفة المنصور أن تلبس القلنسوة الفارسية، وأتخذ هو ومن بعده الحلل المذهبة على الأساليب الفارسية، وقد أبقى الزمن من نقود الخليفة المتوكل ما يظهر هذا الخليفة في مظهر فارسي كامل.
ومن الكلمات الجامعة في هذا ما قاله المتوكل حين أراد إصلاح السنة المالية ورد النيروز إلى مكانه من العام فأحضر الموبذ ليستعين به، فقال الخليفة.
قد كثر الخوض في ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس.
وسأله رأيه في الإصلاح.