أكان لا بد من الموعد في الشارع؟ |
إني ألتقي بالصبح في بوابة الموت |
وبالموت على قارعة القلب |
سجين في محابس الغلاء والمفاجآتْ |
يتعبني قهري وأوجاعي |
وأكبر الأعباء بينها الحياةْ |
حب جديد يفتح الدعوة للدنيا |
ولكن موعد العشاق يرعب الحبيس |
كيف نلتقي؟ |
وكم شرنقة عليّ أن أعبر |
حتى أصل الحب |
تعالي قابليني في شرانق البياتْ |
أقول: لا حاجة للموعد في الشارع |
إن نحن التقينا فيه نبدو مضحكين |
عاشقين دون سقف، أو رغيف أو أمانْ |
نصير عاشقين مقتولين |
جاهلين كيف يعشق القتلى |
وكيف يسترد القبلة المحكوم بالإعدام |
كيف يمنح الهارب لمسات الحنانْ |
حين تغيم حوله الآفاق |
أو تدنو حوافر الخيول من خطاه، |
تلهث الكلاب عند ظهره |
فلا يرى طريقه إلى النجاة |
على الرصيف، حيث نلتقي، |
انتظرت |
فتشوني |
داهمتني نظرات وشظايا |
وانتظرت بين خطوتينِ الانفجار |
فما الذي سأتقي منها |
وأنت تقبلين؟ |
بغتة ينهمر الردم على قلبي |
الذي غافلني يستعجل اللقيا |
اعترتني رعشة |
خفتُ، إذا جئتِ، |
بأن لا تعرفيني |
وبأن أعجز عن مدّ يدي تحيةً |
أعجز أن أرشف عينيك |
وقد أعثر في الدرب إذا سرنا |
لأني سأسير تائهاً موزعاً |
ما بين عينيك |
وما بين التفاتي خائفاً |
ونقل خطوتي محاذراً |
إني أخاف حارساً، |
حين يخاف عابراً |
وعابراً حين يخاف حارساً |
ثم يخافان معاً مني |
من الذي سيقبل ادعائي |
إنني أبقى هنا عشقاً؟ |
وإن الحب سر الانتظار؟ |
كيف نسير في الطريق عاشقين |
الخوف يرتدي ملابس الطغاة |
والطغاة يخطئون بالمشاة |
وكل طاغ قد يذل عابراً |
وبعدها يعتذر الطاغي |
ولكن... |
ما الذي ينفعني، |
إذا أذلوني، |
اعتذار؟ |
هل أمسك الإهانة التي حُمِّلت وردة |
لموعد العشق |
وأهديك سكوتي في الهوان؟ |
إذا أذلوني سأبقى خجلاً منك |
فلا أعرف هل يعشق مذلول |
تلقى الذل في صمت |
وفي وضح النهار |
كيف أمد نحو خديك يدي |
وكل ما يلمسه يهينه الذليل |
إذا أتى الحراس صرت شبهة |
والشبهة الآن هي الموت |
فكيف ألتقي بمن أحب بعدها |
إن قتلوني |
- ربما من غير قصد قتلوني - |
هل تريدين حبيباً قتلوه خطأ |
وكيف يضحي العشق بعد قتلي |
لم أتعلم كيف يعشق القتيلْ |
آه من الوقت البخيلْ |
أكلما عانقته استحال |
قدم الخوف بديل |
آه من الأمن الجميلْ |
أكلما قلت له: يا مرحبا |
انتهى إلى الصمت الذليل |
أواه يا سيدتي |
حبك موت، والمواعيد له |
صارت جنوناً وانتحار |
هل جاء في ملحمة العشاق |
للحب الذي أعرفه الآن مثيلْ |
ونحن، كلما تواعدنا، التقينا فرحاً |
يسيل في عناقنا الذلّ الدخيلْ |
وكلما تبسّمت أعيننا |
فاجأنا من نبض قلبينا العويلْ |
أكان لا بد من الموعد في الشارع |
لغم الشارع المذعور موقوت على قلبي |
وليس الشارع الملغوم لي |
وليس لي أمن الرصيف فيه |
أو مداخل الأبنية المعتمة |
العشق هنا ليس لنا |
يمتلئ الشارع بالأعداء والرماة |
يمتلئ الشارع بالمطاردين والجناة |
يمتلئ الشارع.. إلا بالحياة |
يمتلئ الشارع إلا بي |
رائحة الدم الذي ستنزفينه |
أضيق بالذئب الذي سوف أصيره |
وأعرف الآن ستأتين |
فأعوي شرهاً |
أكان لا بد من الموعد في الشارع؟ |
لو أنا تواعدنا إلى البيت |
لكي لا تسقط البراءة التي رضعتها |
لكي لا تسقط الشجاعة التي ادعيتها |
كما يسقط ثوبي ويعريني أمام الناس |
لو أنا تواعدنا إلى البيت |
ففي بيتيَ لا يخجلني عريي |
ولا يستيقظ الذئب مع العري |
ولكن... |
نصبح العري الذي يطلب دفئاً |
ثم يستسلم للحب |
فنفغو بين نهديك |
كطفل رضع الأمن.. ومات |
في البيت أعرف الذين يطرقون بابنا |
أعرف أني وحديَ المقصود |
لو أتوا يحطمون بابي |
لو ضربات كسرت أقفاله |
لو عبوة تفجرت فهدمت جدرانه |
فلن تكون صدفة |
نقول بيتنا ومتنا فيه |
تبقى فيه أسراري |
وهذا الحب سري |
ولا أراك فيه |
لا أرى فيه بلادي |
لا ... أرى. |
إلى متى أظل أنجو؟ |
قد تعبت من سخف النجاة |
وقلت: أترك المسلحين في قتالهم وأهجر البلاد |
لكن |
لا أرى مما يليق |
أن يجيئنا العدو (حين يهرب المسلحون) |
ثم لا يرى ذبيحة مثلي |
ولا يليق أن ينهار بيتي |
عندما يقصف، أو ينسف، |
لا يليق أن يخلو ركام ردمه |
من جثتي |
عرفت منذ زمن |
بأن هذي الغابة العمياء |
ليست وطناً |
لكنها كانت سرير الاحتضار |
أكان لا بد من الموعد في الشارع؟ |
والشارع قد صار كميناً |
هل هوانا دعوة للموت؟ |
أم للركض خوفاً |
بين قطعان الذئاب |
قد يفيق الذئب في قلبي |
وإني أشتهيك، فاهربي |
إني أشم ظامئاً |
تعودت على تهريبه |
كيف توهمتِ بأن الحب للضوء |
وأن الحب للشارع |
والشارع غابات ذئاب |
أصبح الشارع سراً حلبة |
يطلق فيها الحب قدام الوحوش وحده |
يشيح عنه العابرون |
يغلقون في جواره نوافذ الفرجة |
يسدلون بعدها الستائر |
التي تحميهمُ من الشظايا والعويلْ |
وأصبح الشارع مضمار رصاص |
راكض بين جسوم العابرين |
جاءني الموت على رصاصتين |
كيف لي التمييز ما بينهما؟ |
رصاصتان تسعيان نحو قلبي |
ما الذي تنفعني الآن النوايا؟ |
وأنا مرتبك بينهما |
فاجأني تحت خطاي الانفجار |
في ومضة التفجير، كالبرق، |
رأيت أفق موطني وكان مقفلاً |
رأيت أرض موطني |
وكانت الأرض أمامي مرجلاً يغلي |
وكان الحب بين أضلعي معتقلاً |
وكنت في طريق الخوف وحدي |
أحمل الهم النبيل |
كنت أسير حاملاً أحلامنا |
عن وطن أجمل |
لا أملك إلا أن أصيح من سويداء الضنى |
آهٍ من العبئ الثقيلْ!! |
وحدي أسير تحته مرنحاً ومثقلاً |
والعالم المحيط بي يدور أو ينهارُ |
لا أدري أصبتُ بالدوارِ |
أم أصيبت بالسعارْ |
كيف سألقاكِ وقد ضاق على قلبي الحصارْ؟ |
وكيف لي أن أعرف الآن |
إذا كنتِ أتيتِ |
أمسى طفل راكض |
لم يصل المدرسة |
استهوته لعبة له |
أن يعتلي الجو بلا قفز |
وأن يطارد اليد التي |
أفلتها التفجير منه |
لم يعدْ ولم تعد ذراعه |
عاشقة متعبة |
ترتاح في ناصية الموت قليلاً |
لا ترى عاشقها |
وظل وحده |
يهيئ العتاب بالوجه النحيلْ |
وبغتة ذوى |
دعته طلقة مسرعة إلى سباتها الطويلْ |
وأمس جلاد أضاع الدرب في الردم |
فلم يصل إلى قبو المساجين |
وميت ضل عن قبر |
فكيف نلتقي؟ |
رصاصة أطلقها الخائف |
كي يقتل خوفاً شلّه |
فارتطمت بي وبعينيك |
فماذا تفعلين بالدلال المتراخي بين عينيك |
إذا ما اندفعت بينهما رصاصة |
وكيف ألقاك إذا فاز زحام الخائفين |
في طريق كله دخانْ |
وما الذي يفعل صدرك بالنهدة |
إذ يبتدئ الركض الجنوني |
وأين تودعين ما لديك من حنانْ |
وما الذي يفعله نهدك بالحلمة |
إما فرقت بينهما شظية |
وما الذي أفعل بالقبلة |
إن عز الأمان |
هأنذا في الشارع الموقوت |
حسب موعدي |
منتظر |
أكان لا بد من الموعد في الشارع؟ |
إني صامت وخائف |
لا أنطق احتجاجي المرير |
تعرفين أني دونما لسانْ |
وها هي الآن الشظايا |
ملأت فمي |
وقد صارت بديلاً للّسانْ |
____________ |
من ديوان: للخوف كل الزمان |