إلى نيرودا .. وآخرين |
ليس بين الوباء ، وبين الوباء سوى الأوبئهْ |
المياه تجف ، وبرقكَ لا يتكشف إلا عن الموتِ |
هيِّء له ما تبقى من الجسد المهتري |
وتهيأ كما تتهيأ للعرس عاشقة |
وكما تتهيأ ثاكلةٌ لاستلام توابيت أبنائها |
إنه الموت ، |
بين الحشود يفاجئ |
إذ يخلع البسمة الزئبقية |
يخلع أوسمة الجنرال وسترته |
ويفحّ فينسل بين الوباء وبين الوباء |
مثلما كنت تخشاه جاء |
الحصار يضيق ، |
وخطو الجنود يلامس أوردة الخوف |
والبندقية تعصاك |
أشفقتَ أن تقتل المتَمَسْكِن في مقعد الشللِ ، |
الآن يقفز كالجندبِ |
الآن يركض خلفك ملء البلاد |
هو الآن يطلق صوبك لم ترتجف يده |
كان حلمك يبدأ من جسدٍ يتواصلُ |
من ضحكةٍ كالرنين |
وأرغفةٍ تتوهج |
وانفجر الحلم من لغمه |
] تتفتح فيه الكمائن |
تُسْتَلُّ منه الخناجرُ |
تنهمر الطلقاتُ [ |
سلاحك يعصاكَ |
كيف ستطلق من معدن حقدك المتنمِّر ؟ |
تنهمر الطلقات |
تفجّر أحلامَكَ اليانعاتِ |
وأصواتها تتبدّد بين الضجيج الذي صنعوه |
تَحوَّل حلمك يطلب لو طلقة الرحمةِ العربيةِ |
تصفرّ فيكِ المدينةُ |
وهو يجيء : |
ذراعاً بلا جسدٍ |
قدماً دون رأسٍ |
تخفى طويلاً ببنكٍ وعاهرة |
فقّسَتْهُ المتاجرُ والرتبُ الخلبيّةُ |
لم يبق في الأرض متّسعٌ للصراخِ |
ولم يبق في العمر متّسع للسؤالِ |
ولم يبق في القلب متسع للبكاء |
مثلما كنتَ تخشاه جاء |
وخطاه تدبُّ إليك على جثث الفقراء |
الذين أبوا جوعهم |
وعلى أوجه الفقراء الذين اشتروا جوعهمْ |
جاء يرشده الأصدقاء القدامى |
تدجج بالخائنينَ |
فضاقت حدود البلاد إلى شاطئ القلبِ |
وانتفخ القلب بالقهر حتى حدود البلادِ |
وعيناك أقفلتا عند باب الشقاءْ |
الهدير الذي لازم الموت |
يغنيكَ عن قرعةِ البابِ |
إن الشتاء يجيء من الغربِ |
تعرفه من سواد الغيومِ |
ومن رجفة في المفاصلِ |
إن الطغاة يجيئون بين نسائم باسمةٍ |
ويجيئون من رهبة تجعل الجبناء قساةً |
وهم ينصبون المشانق من حبل سرتكَ |
اليوم لن تتأوه |
موتك يأتي من الوجع الفاجعيِّ |
إذا جندوا كلماتك في شدق سمسارهم |
جعلوا من جنائز عمركَ أعراسهم |
ودعوك لترقص فيها |
وخلوك بين الجنون وبين القبولِ |
همُ اختزلوا من جهاتك بالوحشة الأبديةِ |
ضاقت حدود الأماكنِ ، واختصروا من جهاتكَ |
ظلّ لك العمق ، فاسقط بعمر وضيعٍ |
أوِ انتظر الموت ينبع فيك |
من الدمع حين حبستَ |
من الآهة المشرئبة حين لجمتَ |
لقد هرب الأصدقاء من القلب نبضاً فنبضاً |
وتاهوا بزيف الغنائم |
لم يسمعوك وأنت تحذرهم أنها أُحُدٌ |
أن تجار مكة يلقون بعض الفتات |
لإخلاء هذي المتاريس |
يلتفّ جيش وراء المواقعِ |
أنتَ ابتدأتَ لكي تلتقي بالفجيعةِ |
منذ تخليت عن وجبة طبخت بالدماءِ |
فصرت لهم غصةً |
صار طعم المرارة لوناً يميز جرحَكَ |
قلبُكَ يقفز كي يتدارك شيئاً |
فتغمض عينيك كي لا ترى سقطة الحلم |
دنيا حواليك عادي إلى جاهليتها |
والطريق التي كنت تطلب بين "المدينة" والوجبتين |
تصير طريقاً لتجار مكة |
كل معلقة في عكاظ تندِّد شامتة بالغفاريِّ |
سوق النخاسة تفتح عند الأذان بصوت بلال المؤلِّب |
" الله أكبرُ ، |
حيَّ على الثأر من فقراء البلادِ " |
ويبتدئ الثأر من ياسرٍ وسميةَ |
أعداءك انتصروا |
والكسالى أتوا يرِثونكَ قبل الردى |
إنهم ينهبون السفينة |
كلٌّ تأبط منها خفيفاً عزيزاً |
وأنت تراقبهم ، وسلاحك يعصاك |
تَرقُبُ كيف تميل السفينةُ |
والموج يقسو عليها |
وموتكَ ترقبه يتسلق هذي الحبالَ إليكَ |
وراء خطاه نعوش الأحبة مثل السفائنِ |
صرتَ وحيداً |
وهم يهجرون السفينةَ |
كلٌّ تأبط منها خفيفاً عزيزاً |
وكانت لهم خشباً ، |
ومطيةَ بحر يهيجُ |
وراحلةً تنقل الصفقات |
وتبقى السفينة موطنكَ المرتجى |
والحنينَ إلى لمسة البحر عند الحوافِّ |
إلى لسعة الريح فوق الصواري |
وأولَ إراقة الحلم عند ملامسة الماءِ |
والعرَقَ المتصبِّب عند مواجهة الخطرِ |
الآن أنت وحيد |
تودع حلمك في أن تشاركها حتفها |
حين تُغْلَقُ أبوابُ كل نجاةٍ |
وينفجر الحلم: |
تُصلب فيها برغمكَ |
فالكلّ يمضون عنكَ |
الرفاق نعوش كأشرعة تتشرد في الريح |
والأصدقاء القدامى كقافلة حملت كل ما في السفينةِ |
والآخرون يبيعون هيكلها المتبقيَ |
- لو تركوه ضريحاً – |
وتبقى وحيداً بمقبرةٍ دون قبرٍ |
ويقبل موتك |
لا تقبلِ الإرتخاء إلى أن يفاجئك |
الآن تنهض ، مهما تكن حالة البيتِ ، |
تستقبل القادمين بشوشاً |
كما يفعل الفقراء |
سوف تنقل خطوك عبر الأنين |
فتنبئك الأوجه المكفهرة |
أن لا مكان هنا للغناء أو الشعراءِ |
ولا غد للفقراءْ |
الفجيعة تسفر عن وجهها |
منذ أن قيل : نزفك ماء |
وهذي البلاد قميص |
وقيل: احمرار المياه هنا ليس من دمك المتدفقِ |
بل خجل الإنتماءْ |
وتُفجر حلمك ، |
تنبشه من قبور دوارسَ |
تأبى عليه الدموعَ |
ستصنع حلماً جديداً |
فموتك نومٌ |
لعل احتضانك للموت يأتي بحلم جديد |
فما كنت تطمح أن تستزيد من العمر |
حتى تطاول فكيك |
حني الكهولةَ رأسكَ بعد زمان الإباءْ |
عشتَ تنتظر الطعنات بظهرك ، |
جابهت حرباً وحرباً وحرباً |
وجابهت موتاً وموتاً وموتاً |
وموتك هذا الذي يقرع البابَ |
مثل الذي كنت تبحث عنه |
ولكنه جاء مختفياً مثلما تقبل الكهرباءْ |
أنت لن تُخمد النَفَسَ المتردّد ، |
بل تصرخ الآن : "فلتفعلوها" |
وقلبك يكبر قنبلة |
تتمدد حتى تمس حدود البلاد |
فتصعقها رجفةٌ |
وتفجّرها أدمع الفقراءْ |
جاءك الموت فانهض |
لتلقاه مبتسماً |
مثلما تقتضي الكبرياءْ |
كان خوفك منه انتظاراً تقنّع ، |
شوقاً تأبى |
.. وجاء |
مثلما كنت تخشاه جاء |
مثلما كنت تخشاه جاء |
فانهض الآن في وجهه مثلما تقتضي الكبرياءْ |
ستقول لنفسك : "هيا بنا" |
وتودع أحلامك الذابلات |
وأنت تسير إليه |
تراه صديقاً قديماً |
وضوءاً إذا انطفأ الآخرون |
وتكتشف الآن هذا الحنينَ القديمَ إليهِ |
تعانقه |
وكما يطفأ الضوء في الريحِ |
في حضنه تستريحْ |