تناولَتْ من أُمها قنينةََََََ الدواءْ |
وقبّلتْ جبينها الذاوي |
وسوَّتْ حولها الغطاءْ |
وقبلَ أن تنْدسَّ في فراشها الباردْ |
تغلغلت رطوبة ُ الحجرة في عظامِها |
فالتصقتْ بالموقد الهامدْ |
وأرسلتْ عبر الزجاج نظرةًًً حزينه: |
كان دويّ ُ مَِرحٌ يُسمعُ في المدينه |
وأسهمٌ نارية ٌ تصعد في الفضاءْ |
مُطِلقةًَ في زرقة الليل ِ |
نوافيرَ من الضياءْ ! |
وفي الزقاق ِ أوقفتْ مركبة ٌ هدبرَها .. |
ثم تعالى لََغَط ٌ خفيفْ |
وضاعَ في الجوارْ ... |
فأيقنت أن البيوتَ حولها تستقبلُ الزّوّارْ ! |
وفجأةً أحست الصمت ثقيِلاً |
وسََرَتْ في جسمها النحيفْ |
رعدةُ خوفٍ ، |
وبدا كأنّما الدنيا بما فيها من البهجة والأعيادْ |
قد رحلتْ وخلّفتْها |
في عَراءٍ باردٍ ، مخيف ! |
وفكرّت وهي تُديرُ إصبعاًً مقرورةً |
في كومة الرمادْ : |
"هاهي قد حَلَّتْ أخِيراً ليلة ُ الميلادْ ! |
" فهل سيأتي هذه المرّةَ في الموعدْ |
" وكيسُه ملآن ُ بالأثواب والُلعَبْ ؟!... |
"لكنني أخاف أن يغلبني النعاسُ والتَعَبْ |
"والبردُ يشتدّ ُ ...ولا أحطابَ للموقدْ ! |
" لم أعرف الراحة َ منذ الفجر ِ... |
"أصلحت ُ لأُمّي ثوبها العتيقْ .. |
"جففتُ عنها عَرق الحمَّى |
"واعددتُ لها الطعامْ.. |
"مسكينةٌ أُمّي ! |
محاها الداءُ محواً ، لم يَََدع منها سوى العِظامْ ! |
قالت بهمسٍ ، واعتراها شَجَنٌ عميقْ |
وأفلتتْ من جفنها عَبْره : |
"لا ! لا أريد لُعبة ً منه ولا رِداءْ ! |
"سأرتمي ضارعةً أمامهُ .. |
"لعلّه يمنحها الشِفاءْ ! |
"لكنْ ...أآتٍ هو حقاً هذه المرهْ ؟! |
" أم سيديرُ وجهه عن بابِنا ، |
"مثل َ جميع الناس ؟! |
"لا ، هو لن يفعل هذا !... |
"كيف ينسى طفلة ً مجروحة الإحساس ْ |
"ترقب أن يجىء منذ عامْ؟! |
"لكنني يملؤني الخوف من النعاسْ ! |
"ماذا يقولُ لو رآى منزلنا يسوده الظلامْ ، |
"موقده منطفىءٌ وأهلُهُ نيامْ ؟! |
"ألن يعودَ غاضباً ؟..." |
....والتمعت ْ في ذهنها فكره ْ : |
"قد تستميل قلبه رسالة ٌ |
"أتركها بجانب الشّباكْ |
"لعله يلمحها هناك ْ |
"إذا أجال َ طرفهُ في هذه الحجرهْ !" |
*** |
رأته في منامها يجىءُ |
في زحّافةٍ تجرّها الوعولْ! |
كان كما يظهرُ في الصَُوَرْ |
بلحيةٍ كالقطن في بياضِها |
وطلعةٍ زهراءَ كالقَمرْ ! |
وثم ذرّاتٌ من الثلج على مِعطفِه المبلولْ. |
ربَّتَ في لُطفٍ على مفرِقهِا وخدّها الشاحبْ |
وقال : " لا تبتئسي ، يا طفلتي ، |
"ما أنا بالغاضبْ . |
"أعرف عنك كلّ شيء ، كلَّ احزانِكْ . |
"وكل ما تَلقيْنَ من إذلال ْ |
"وأنتِ ترتجفين برداً بين أقرانكْ |
"بالجورب المثقوب والأسمال ْ! |
" أدري بما كابدت ِ في يومك من نصبْ |
"لتدرئي عن أمّك البائسة العناءْ ! |
" لا تحزني ،بنيّتي ..أٌمُك أحضرتُ لها الدواءْ |
"وهذه كلّ هداياك ِ، هنا ، في هذه العُلَبْ ! |
في العلبة الأولى رأت ْ |
خُفَّينِ ناعمين مشغولينِ بالفراءْ |
وفوجئت في العلبة الأخرى |
بمعطف ٍ رأته من خلف الزجاجِ مرةً |
يسبح في الأضواءْ |
في أحد المخازن ِ الكبرى ! |
وابتسم الشيخ الودودُ قائلاً ينبرةٍ عذْبَه: |
"وهذه العُلبه |
" تضمُ، يا صغيرتي ، الحلوى التي يحبّها الأطفالْ |
"أدري ...لقد كتمتِ عني هذه الرغبه ! |
"أكنتِ تخشينَ من الإلحاح في السؤالْ ؟! |
ولم تجد عبارة ً تقولها فقبّلت يَدَيهْ |
واجهشت باكيةً فضمّها برقّةٍ إليه ْ |
وعندما غادرها بكتْ من السعاده... |
بكت إلى أن غرِقتْ بدمعها الوساده ! |
*** |
في غَبَشِ الفجر استبدتْ نوبةُُ السُعالْ |
بأمّها فانتفضتْ مذعورةً ، |
وفجأةً تذكّرتْ قنينة الدواء والهدايا |
فالتفتت ملهوفةً تبحث في الزوايا ... |
لكنها لم ترَ في العَتْمةِ من شيءٍ |
سوى الحطامِ والأسمالْ ! |
وأطلقتْ شهقة َ حزن ٍ ، |
ومضت ترنو بلا حَراكْ |
حين رأتْ وريقةًَ مطوية ً بجانب الشبّاكْ !! |
__________ |
بغداد 1986 |