سيسافرون غداً وبعدَ غدٍ، وأبقى خلف ظلّي |
كجنازةٍ يقفُ الصَّقيعُ على رؤوس مشيِّعيها. |
أستقبلُ الدّيدانَ منذ الفجرِ، تنبئني الجرائدُ |
أنَّ مخزونَ القصائدِ فوق أخشاب الموائد قد يجفُّ... |
فقلتُ: مِنْ شمسٍ تخونُ ذرى بنيها. |
فارَتْ ضلوعُ البرق في رئتيَّ، |
أنثاي الصّغيرةُ لم تقلْ هَجَرَتْ طيورُ الخبز |
لكنَّ الصَّغيرَ بكى، فكوّرتُ الجريدةَ قلتُ نعجنُها رغيفاً |
كان فصلُ الجوعِ أطولَ من لساني |
يا زماني |
أين أبَّهةُ الأغاني |
حين يحتشد النَّباتُ على المكانِ |
وتنحنى أعناقُ جدّاتٍ على أحفادهنَّ، |
وترقصُ الأحلام في نَسَقٍ من الزَّيتون... |
هل قَلَبَ الإلهُ مسيرةَ الأشياءِ فينا؟ |
أم نحنُ مقلوبون منذُ البدءِ؟ |
كم كنّا نربي في خلايا النَّحل شهوتَنا |
فيسرقُها الضّياعْ |
هل نحن منذورون للغاباتِ في هذا المدى؟ |
نلتمّ في كهف الصَّلاةْ |
نصطادُ مِسْكَ غزالةٍ شرَدَتْ بعيداً في الصَّدى |
ونعودُ نحو بيوتنا فنرى موائدنا تباشرُ رقصةَ الفوضى |
وتُخبرنا النّساءُ بأنَّ وحشاً غامضاً |
دخَلَ البيوتَ وخلَّعَ الأحداقَ واستلقى على المهدِ الحرامْ |
هل نحن منذورون للغاباتِ؟ |
ذاتَ سحابةٍ أيقظتُ كارثتي، لبسْنا بعضَنَا، |
كانَتْ مدينتُنا مطوَّقةً، وحارتُنا معلَّقةً برجليها، |
رأينا من نوافذنا الجنودَ يفتشون الفجرَ |
قلنا: سوف تَخْرَبُ، ردّدت أمٌّ: لتخرَبْ... |
قال أبْ: |
هذا نذيرٌ من غَضَبْ |
ودفنتُ رأسي تحت كرسيٍّ من النّيرانِ |
تجلسُ فوقَهُ بعضُ الكتُبْ |
ورميتُ فوق النّار روحاً من خَشَبْ |
ورأيْتُ روحَ اللّه أجنحةً تشيّعُ صرختي... |
... ... ... |
|
بيدي أشرتُ إلى السَّماءْ |
هذي شعوبٌ من قبائلَ، أم غيوبٌ في السَّلاسلْ؟ |
هذا نهارٌ ليسَ للأنثى به برجٌ لتسرقَ منهُ ليلةَ عرسها |
هو وقُتنا صَرْحٌ على أطلاله ترعى الوحوشُ اللاَّبساتُ |
دروعَ آلهةٍ، وتَصفرُ فيه ريحٌ غامضَةْ |
وقتٌ لعائلةٍ مضَتْ يستيقطُ الغثيانُ في أرحامها |
وتفحّ في شرفاتها أفعى العبثْ |
وقت يحاولُ حكمةَ الرّؤيا... |
كأوراق الخريفْ، |
نحنُ/ انفجرْنا عند منعطفٍ، هَوَتْ قمصاننا، |
وتجمّعَ الأولادُ حول نخاعِنا يتندَّرون بشكلِهِ: |
هذا نخاع للمغنيّ، |
آخرٌ لمرتِّل الآلامِ، |
هذا للمطأطىءِ ظِلَّه ذلاًّ، |
وهذا للّذي يهذي... |
و... أهذي أيها الطاعونُ، يا مدلولنا اليوميَّ، |
أهذي... لنْ أتابعَ لعبةَ الشّعراءِ حين يرتبون جنونهم |
فليصعِد الهذيانُ |
ولتنزلْ أباريقُ الغمام على موائِدنا |
ستلمعُ في حواشيها قناديلُ الوفيّاتِ القديمَةِ والجديدةِ، |
|
بعضُها مدنٌ يلوطُ بها العذابُ، |
وبعضُها مستنقعٌ سمّوه مؤتمراً ستغشاهُ الطَّحالبُ، |
والكواكبُ من ذرى صهيون تهبطُ في ضفافِهِ... |
بعضُها... آهٍ علينا أيّها الهذيانُ، |
حتَّى أنتَ نَزْفٌ فوق أوتار الوضوحْ |
آهٍ علينا كم طوينا الأرضَ، نبحثُ تحتَها عَنْ قرن ثورٍ هائجٍ |
لنعيدَ شطرنجَ التّوازنِ بين ثوراتٍ تفتتُ خبزَنا |
وتشدّنا نحو المهاوي |
وتوزّعُ الأمواتَ فينا بالتَّساوي... |
... ... ... |
ما عدتُ أبصرُ مغريات البلبل القُزَحيِّ في غَبَشِ الظَّلامْ |
مدَّ الظّلامُ لسانَهُ في وجه أغنيتي ولوَّثني، |
وغطى حلمةَ الفرح الوحيدةَ، كنتُ أرضَعُها وأهربُ |
من مواعيد الفطامْ. |
كسرَ الظلام زجاجَهُ من شرفةٍ عُلْيا على رأسي، |
تناثرتِ الشظايا والدَّمُ الشّعريُّ بلَّلني، |
وقيَّدني الهواءُ |
فلا رئاتي مَشْرِقٌ للرّيحِ، |
لا عيناي إطلالٌ على عُرْسٍ، |
لساني سابحٌ في دفء وهمٍ من كلامْ |
هذا الظلامْ |
رحمُ الوجودْ |
فيه اتخذنا النَّشأة الأولى، وقبَّلْنا مناجلَهُ تبعثرُ |
قمحَنا الرّوحيَّ في أفق الحديدْ |
هذا الظلامُ مليكُنا، يوحي إلى حُجَّابِهِ: |
انتشِروا بأدغال المدينةِ، |
علِّقوا صُوّري على قضبانِ شهوتكم، |
وسمّوا كل ممسوخٍ جديدْ، |
باسمي، اجمَعُوا ذهَباً لمولاتي، |
ولا تنسوا لسانَ الأرض، شُدُّوهُ، ازرعوه في |
فمِ الحربِ المباركِ كي يباشرَ بالنّشيدْ... |
... ... ... |
بيدي أشرتُ إلى الحروب المشرقيَّةِ |
كيف تبدأُ؟ كيف تصعدُ؟كيف تنمو، ثم تُخْتَتَمُ الحروبْ |
من أجل سروال الأميرة، من سيُلْبسُهُ لها؟ |
تسريحةِ الفخذين في عيدِ الختانِ، ومن ينقّبُ |
فيهما عن بئر نفط مقفلٍ؟ |
من أين تبتدىءُ الحروب وكيف تُختتم الحروبْ؟ |
عبثٌ تصدّرُه محطَّات الإبادة والبيوتُ البيضويّةُ إذ تغلّفُ |
سمَّ معدنها بأوراق الحريرْ |
|
من يسندُ الرّؤيا وقد سقطتْ على هاماتِنا ألواحُها؟ |
من يجمَعُ الجنديَّ بعثَرَهُ الدّخانْ؟ |
من يحجُبُ الأرضَ العراءَ عن الفضاءِ الكيميائي؟ |
خلعَتْ نساءُ العمرِ أرديةً الشّتاءِ |
نامَ الجنودُ، وكان لونُ النَّوم حلماً من دماءِ |
حلموا، وكان الحلمُ أصغَرَ من إلهٍ كيميائي |
بيدي أشرتُ إلى الحروبِ المشرقيّة، كنت أحرس نبضكِ |
اللهبىَّ، والآن انتبهتُ إلى غبائي |
عندما هربتْ قوافلُنا من الحربِ الأخيرةْ... |
... ... ... |
هربتْ قوافلُنا من الحرب الأخيرةْ |
جنحتْ إلى السّلم القبيلةُ، |
واستظَلَّتْ أمَّةُ الأطلالِ بالنَّخلِ العقيمِ، |
ونام شيخُ البدو في قارورة الأحلامِ، |
نام الفارس الخشبيُّ في حَجَرِ الأميرهْ |
وبكت على الأرض العشيرهْ. |
لم يبق حوذيٌّ، ومركبةُ الرَّحيل تعثَّرت بعظامنا |
الآن من يمشي، يشيّعُ جرّةَ الطّين الشّهيد إلى الخلودِ؟ |
أو منْ يدلّ ضحيّةً عمياءَ أين ترابها؟ |
وتراثُها قبرٌ من الأسرارِ |
|
تتلو فوقه حربُ الطّوائف سورةَ الغزوات: |
طائفةٌ تطوف على كنوز مدينةٍ سحريةٍ |
أُخرى ستنسجُ من جلود الخيلِ قبّعةً لكاهن ((أورشليمَ)) |
وتلكَ طائفةٌ ستهجرُها المعابدُ حين يحشو فقرُها |
أمعاءَ قتلاها وتزحفُ باتّجاه هلامها |
وترى بمعراج السَّراب خريفَ جنَّتها الفقيرهْ. |
هربتْ قوافلُنا من الحرب الأخيرةْ |
هذا جموحُ الفتكِ، فازرَعْ رمحكَ القَبليَّ في رأس النَّخيلْ |
وتدلَّ من قدميكَ في أنبوب غاز واغتسلْ |
قد أذَّنَ الفجرُ الأميركي المسلَّحْ |
فاطلَعْ على الأرض الهجينةِ باسم قاتلكَ المجنَّحْ |
واقرأ له/ إنّا فتحنا المعجزاتِ بعَجزْنا/ |
واذبحْ على مرآه زوجتَكَ الأليفةَ، |
اتخذه سيّداً، أو: تُشْترى من حلمكَ العاري وتُذْبَحْ |
هذا جموح الفتك، فاجمَحْ... |
... ... ... |
قال المغنيِّ- والقصيدةُ طينةٌ خرساءُ- |
/ إنّ الأرضَ عاشقةٌ، ومن يعشَقْ سيُفْضَحْ/ |
قال المغنّي إنَّها الصَّحراءُ تنتجُ عالماً من معدنٍ |
طالت أظافرُهُ لتخدُشَ جنّةَ الرّؤيا، وتجرَحْ، |
|
نسيانَنا، فيسيل فوق الأرضِ، |
صحراءٌ تبيعُ الرّيحَ بالميزانِ، |
طوفي ... ... |
طوفي بنا يا ريحْ |
فاضَتْ مواجدُنا |
شَفَقُ الزمان ذبيحْ |
والشَّيبُ سيّدُنا |
وفضاؤنا تلويحْ |
لغدٍ يبدّدنا |
ما زال كلّ كسيحْ |
يحبو ويُنشدُنا |
أغنيّةَ الرَّغباتْ |
يا لحظةَ الشَّللِ |
مات المفدَّى ماتْ |
وقصيدةُ البطلِ |
سقطتْ عن الكلماتْ |
في هوّة الأزلِ |
ومضتْ بلا ميقاتْ |
وحديقةُ العسلِ |
جثُثُ من النَّحلاتْ |
|
ملّتْ من الملَلِ... |
... ... ... |
دخلتْ مراثي الرُّوح فصلَ سقوطها العربيِّ.. |
عهدٌ تُستْعادُ رموزُه |
منذ انبثاق النُّور |
حتَّى نخلةِ الدَّيجورِ |
من يسمو على هذا الرُّكامِ؟ |
وهبتُكِ الأسماءَ يا مأساةُ |
عاليةٌ هي الأسوارُ بين طيورِنا وسمائِنا |
فخذي عبيرَ هوائنا |
سنقول عنكِ: أتيتِ من ضلع الكلامِ |
قصيدةً سجَدَتْ لها الأجداثُ، |
زوَّجناكِ كلَّ نسائِنا |
ومشتْ إليكِ شواردُ الأجناسِ تقرأُ لغزكِ الكونيَّ |
تُنشدُه على أبنائنا |
من طينةِ المأساةِ كُوِّنَّا، فسبحانَ الَّذي |
مسَحَ المدى بدمائِنا... |
... ... ... |
قال المغنّى: في القصيدةِ أمَّةٌ |
كم كنتُ أنبشُ في مقابرها لأبحثَ عن كتابٍ |
لم تزلْ أوراقُه في الغيبِ يسُكِرَها الضَّياعْ |
قال المغنى: في القصيدةِ، في ضفائِرها، زهورٌ للتّكاثرِ. |
هل أفاخرُ في القيامةِ بالبنينِ، |
وحربُنا ابتَعَدتْ وما ابتعَدَتْ؟ |
ستأكلُنا طواحينُ الحروبِ، يؤرِّخُ الدَّمُ وقتنا |
ويقولُ صمتٌ صمتنا. |
قل يا نبيَّ الهجرة الأخرى، بأيِّ كواكبِ الرّؤيا نعلّق موتنا |
وبأيّ ربٍّ يحتمي الوادي المقدَّسُ؟ إنْ مشى |
وحشُ المعادنِ في الحقولِ ليُسْكِتَ الينبوعَ |
عن إنشاده؟ |
أفقٌ رمتْ أبعادُهُ لهباً على أبعادِهِ |
والمعبدُ الرّوحيُّ ألقى فوقَ سورِ اليأس سادنَهُ |
وأخفى خلسةً ناقوسَهُ، وبكى على عُبَّادِهِ. |
... ... ... |
قال المغنيّ: لو حفرتُ على جدار الكهف أسماءَ الهزائمِ |
غير أنَّ الكهفَ أضيَقُ من هزائِمنا، وقالْ: |
مالتْ بنا شمسُ الرَّحيل/ وما يزالْ |
هذا المدى رحماً لميلاد النَّخيل/ فيا رمالْ |
لا تهتكي سرَّالطّلول/ فكلّنا طللٌ، |
ولا تستنكري شيبَ الخيولِ/ فكلّنا كهلٌ... |
ومالْ |
|
هذا الفضاءُ على تصدُّعِهِ وأسرفَ في الزَّوالْ... |
قال المغنيِّ: |
زحَفَ الخرابُ على أصابِعِهِ وإنيِّ |
زاحفٌ بحناجري/ |
... ... ... |
للشّعرِ حنجرةٌ، وللحربِ |
للموت حنجرةٌ، وللحبِّ |
بجنود أحلامي سأهبطُ في |
أرض التَّلاشي خالقاً ربيِّ |
أرضُ النّبوّة تلكَ مثقَلَةٌ |
من كاهناتٍ لمْ تعدْ تُـنْبى |
أرضٌ من التّيجانِ ضائعةٌ |
في جوف طاغوتٍ بلا شعبِ |
أرضُ الكنوز جهاتُها اختلطتْ |
فجنوبُها في شرقها الغربي |
أرضٌ بسحر السّحر مضّمَرَةٌ |
نادى عليها الحزن أن هبّي |
وهبي هواءَكِ بضعَ معجزةٍ |
تحمي القبيلةَ من يدِ النَّهبِ |
أرضٌ من الأشلاءِ تَرْصُدُها |
|
عينٌ تشعُّ بجمرة الغيبِ |
نذَرَتْ لماءِ الغير جنَّتها |
ومضَت بلا زهرٍ، ولا عشبِ... |
... ... ... |
هربت قوافلُنا، قريشُ مشَتْ على جثمانِها |
واستلهمت عكّازَ قاتِلها، |
على الباب المذهَّب كان فَحْلُ الحلف ينتظر النَّبيّْ |
قال المغنيْ: عندما قُتلَ النَّبيُّ بكت مآذنُ يثربٍ، |
ورمت جبالُ الأرض عن أكتافها زهرَ الأمانةِ، |
وانطوى عهدٌ سترويه الرّياحُ عن العجائزِ... |
هكذا هربتْ قوافلُنا، فطوبى للهَرَبْ |