أرشيف الشعر العربي

تراجيديا عربية / الفصل الثاني

تراجيديا عربية / الفصل الثاني

مدة قراءة القصيدة : 10 دقائق .

سيسافرون غداً وبعدَ غدٍ، وأبقى خلف ظلّي‏

كجنازةٍ يقفُ الصَّقيعُ على رؤوس مشيِّعيها.‏

أستقبلُ الدّيدانَ منذ الفجرِ، تنبئني الجرائدُ‏

أنَّ مخزونَ القصائدِ فوق أخشاب الموائد قد يجفُّ...‏

فقلتُ: مِنْ شمسٍ تخونُ ذرى بنيها.‏

فارَتْ ضلوعُ البرق في رئتيَّ،‏

أنثاي الصّغيرةُ لم تقلْ هَجَرَتْ طيورُ الخبز‏

لكنَّ الصَّغيرَ بكى، فكوّرتُ الجريدةَ قلتُ نعجنُها رغيفاً‏

كان فصلُ الجوعِ أطولَ من لساني‏

يا زماني‏

أين أبَّهةُ الأغاني‏

حين يحتشد النَّباتُ على المكانِ‏

وتنحنى أعناقُ جدّاتٍ على أحفادهنَّ،‏

وترقصُ الأحلام في نَسَقٍ من الزَّيتون...‏

هل قَلَبَ الإلهُ مسيرةَ الأشياءِ فينا؟‏

أم نحنُ مقلوبون منذُ البدءِ؟‏

كم كنّا نربي في خلايا النَّحل شهوتَنا‏

فيسرقُها الضّياعْ‏

هل نحن منذورون للغاباتِ في هذا المدى؟‏

نلتمّ في كهف الصَّلاةْ‏

نصطادُ مِسْكَ غزالةٍ شرَدَتْ بعيداً في الصَّدى‏

ونعودُ نحو بيوتنا فنرى موائدنا تباشرُ رقصةَ الفوضى‏

وتُخبرنا النّساءُ بأنَّ وحشاً غامضاً‏

دخَلَ البيوتَ وخلَّعَ الأحداقَ واستلقى على المهدِ الحرامْ‏

هل نحن منذورون للغاباتِ؟‏

ذاتَ سحابةٍ أيقظتُ كارثتي، لبسْنا بعضَنَا،‏

كانَتْ مدينتُنا مطوَّقةً، وحارتُنا معلَّقةً برجليها،‏

رأينا من نوافذنا الجنودَ يفتشون الفجرَ‏

قلنا: سوف تَخْرَبُ، ردّدت أمٌّ: لتخرَبْ...‏

قال أبْ:‏

هذا نذيرٌ من غَضَبْ‏

ودفنتُ رأسي تحت كرسيٍّ من النّيرانِ‏

تجلسُ فوقَهُ بعضُ الكتُبْ‏

ورميتُ فوق النّار روحاً من خَشَبْ‏

ورأيْتُ روحَ اللّه أجنحةً تشيّعُ صرختي...‏

... ... ...‏

بيدي أشرتُ إلى السَّماءْ‏

هذي شعوبٌ من قبائلَ، أم غيوبٌ في السَّلاسلْ؟‏

هذا نهارٌ ليسَ للأنثى به برجٌ لتسرقَ منهُ ليلةَ عرسها‏

هو وقُتنا صَرْحٌ على أطلاله ترعى الوحوشُ اللاَّبساتُ‏

دروعَ آلهةٍ، وتَصفرُ فيه ريحٌ غامضَةْ‏

وقتٌ لعائلةٍ مضَتْ يستيقطُ الغثيانُ في أرحامها‏

وتفحّ في شرفاتها أفعى العبثْ‏

وقت يحاولُ حكمةَ الرّؤيا...‏

كأوراق الخريفْ،‏

نحنُ/ انفجرْنا عند منعطفٍ، هَوَتْ قمصاننا،‏

وتجمّعَ الأولادُ حول نخاعِنا يتندَّرون بشكلِهِ:‏

هذا نخاع للمغنيّ،‏

آخرٌ لمرتِّل الآلامِ،‏

هذا للمطأطىءِ ظِلَّه ذلاًّ،‏

وهذا للّذي يهذي...‏

و... أهذي أيها الطاعونُ، يا مدلولنا اليوميَّ،‏

أهذي... لنْ أتابعَ لعبةَ الشّعراءِ حين يرتبون جنونهم‏

فليصعِد الهذيانُ‏

ولتنزلْ أباريقُ الغمام على موائِدنا‏

ستلمعُ في حواشيها قناديلُ الوفيّاتِ القديمَةِ والجديدةِ،‏

بعضُها مدنٌ يلوطُ بها العذابُ،‏

وبعضُها مستنقعٌ سمّوه مؤتمراً ستغشاهُ الطَّحالبُ،‏

والكواكبُ من ذرى صهيون تهبطُ في ضفافِهِ...‏

بعضُها... آهٍ علينا أيّها الهذيانُ،‏

حتَّى أنتَ نَزْفٌ فوق أوتار الوضوحْ‏

آهٍ علينا كم طوينا الأرضَ، نبحثُ تحتَها عَنْ قرن ثورٍ هائجٍ‏

لنعيدَ شطرنجَ التّوازنِ بين ثوراتٍ تفتتُ خبزَنا‏

وتشدّنا نحو المهاوي‏

وتوزّعُ الأمواتَ فينا بالتَّساوي...‏

... ... ...‏

ما عدتُ أبصرُ مغريات البلبل القُزَحيِّ في غَبَشِ الظَّلامْ‏

مدَّ الظّلامُ لسانَهُ في وجه أغنيتي ولوَّثني،‏

وغطى حلمةَ الفرح الوحيدةَ، كنتُ أرضَعُها وأهربُ‏

من مواعيد الفطامْ.‏

كسرَ الظلام زجاجَهُ من شرفةٍ عُلْيا على رأسي،‏

تناثرتِ الشظايا والدَّمُ الشّعريُّ بلَّلني،‏

وقيَّدني الهواءُ‏

فلا رئاتي مَشْرِقٌ للرّيحِ،‏

لا عيناي إطلالٌ على عُرْسٍ،‏

لساني سابحٌ في دفء وهمٍ من كلامْ‏

هذا الظلامْ‏

رحمُ الوجودْ‏

فيه اتخذنا النَّشأة الأولى، وقبَّلْنا مناجلَهُ تبعثرُ‏

قمحَنا الرّوحيَّ في أفق الحديدْ‏

هذا الظلامُ مليكُنا، يوحي إلى حُجَّابِهِ:‏

انتشِروا بأدغال المدينةِ،‏

علِّقوا صُوّري على قضبانِ شهوتكم،‏

وسمّوا كل ممسوخٍ جديدْ،‏

باسمي، اجمَعُوا ذهَباً لمولاتي،‏

ولا تنسوا لسانَ الأرض، شُدُّوهُ، ازرعوه في‏

فمِ الحربِ المباركِ كي يباشرَ بالنّشيدْ...‏

... ... ...‏

بيدي أشرتُ إلى الحروب المشرقيَّةِ‏

كيف تبدأُ؟ كيف تصعدُ؟كيف تنمو، ثم تُخْتَتَمُ الحروبْ‏

من أجل سروال الأميرة، من سيُلْبسُهُ لها؟‏

تسريحةِ الفخذين في عيدِ الختانِ، ومن ينقّبُ‏

فيهما عن بئر نفط مقفلٍ؟‏

من أين تبتدىءُ الحروب وكيف تُختتم الحروبْ؟‏

عبثٌ تصدّرُه محطَّات الإبادة والبيوتُ البيضويّةُ إذ تغلّفُ‏

سمَّ معدنها بأوراق الحريرْ‏

من يسندُ الرّؤيا وقد سقطتْ على هاماتِنا ألواحُها؟‏

من يجمَعُ الجنديَّ بعثَرَهُ الدّخانْ؟‏

من يحجُبُ الأرضَ العراءَ عن الفضاءِ الكيميائي؟‏

خلعَتْ نساءُ العمرِ أرديةً الشّتاءِ‏

نامَ الجنودُ، وكان لونُ النَّوم حلماً من دماءِ‏

حلموا، وكان الحلمُ أصغَرَ من إلهٍ كيميائي‏

بيدي أشرتُ إلى الحروبِ المشرقيّة، كنت أحرس نبضكِ‏

اللهبىَّ، والآن انتبهتُ إلى غبائي‏

عندما هربتْ قوافلُنا من الحربِ الأخيرةْ...‏

... ... ...‏

هربتْ قوافلُنا من الحرب الأخيرةْ‏

جنحتْ إلى السّلم القبيلةُ،‏

واستظَلَّتْ أمَّةُ الأطلالِ بالنَّخلِ العقيمِ،‏

ونام شيخُ البدو في قارورة الأحلامِ،‏

نام الفارس الخشبيُّ في حَجَرِ الأميرهْ‏

وبكت على الأرض العشيرهْ.‏

لم يبق حوذيٌّ، ومركبةُ الرَّحيل تعثَّرت بعظامنا‏

الآن من يمشي، يشيّعُ جرّةَ الطّين الشّهيد إلى الخلودِ؟‏

أو منْ يدلّ ضحيّةً عمياءَ أين ترابها؟‏

وتراثُها قبرٌ من الأسرارِ‏

تتلو فوقه حربُ الطّوائف سورةَ الغزوات:‏

طائفةٌ تطوف على كنوز مدينةٍ سحريةٍ‏

أُخرى ستنسجُ من جلود الخيلِ قبّعةً لكاهن ((أورشليمَ))‏

وتلكَ طائفةٌ ستهجرُها المعابدُ حين يحشو فقرُها‏

أمعاءَ قتلاها وتزحفُ باتّجاه هلامها‏

وترى بمعراج السَّراب خريفَ جنَّتها الفقيرهْ.‏

هربتْ قوافلُنا من الحرب الأخيرةْ‏

هذا جموحُ الفتكِ، فازرَعْ رمحكَ القَبليَّ في رأس النَّخيلْ‏

وتدلَّ من قدميكَ في أنبوب غاز واغتسلْ‏

قد أذَّنَ الفجرُ الأميركي المسلَّحْ‏

فاطلَعْ على الأرض الهجينةِ باسم قاتلكَ المجنَّحْ‏

واقرأ له/ إنّا فتحنا المعجزاتِ بعَجزْنا/‏

واذبحْ على مرآه زوجتَكَ الأليفةَ،‏

اتخذه سيّداً، أو: تُشْترى من حلمكَ العاري وتُذْبَحْ‏

هذا جموح الفتك، فاجمَحْ...‏

... ... ...‏

قال المغنيِّ- والقصيدةُ طينةٌ خرساءُ-‏

/ إنّ الأرضَ عاشقةٌ، ومن يعشَقْ سيُفْضَحْ/‏

قال المغنّي إنَّها الصَّحراءُ تنتجُ عالماً من معدنٍ‏

طالت أظافرُهُ لتخدُشَ جنّةَ الرّؤيا، وتجرَحْ،‏

نسيانَنا، فيسيل فوق الأرضِ،‏

صحراءٌ تبيعُ الرّيحَ بالميزانِ،‏

طوفي ... ...‏

طوفي بنا يا ريحْ‏

فاضَتْ مواجدُنا‏

شَفَقُ الزمان ذبيحْ‏

والشَّيبُ سيّدُنا‏

وفضاؤنا تلويحْ‏

لغدٍ يبدّدنا‏

ما زال كلّ كسيحْ‏

يحبو ويُنشدُنا‏

أغنيّةَ الرَّغباتْ‏

يا لحظةَ الشَّللِ‏

مات المفدَّى ماتْ‏

وقصيدةُ البطلِ‏

سقطتْ عن الكلماتْ‏

في هوّة الأزلِ‏

ومضتْ بلا ميقاتْ‏

وحديقةُ العسلِ‏

جثُثُ من النَّحلاتْ‏

ملّتْ من الملَلِ...‏

... ... ...‏

دخلتْ مراثي الرُّوح فصلَ سقوطها العربيِّ..‏

عهدٌ تُستْعادُ رموزُه‏

منذ انبثاق النُّور‏

حتَّى نخلةِ الدَّيجورِ‏

من يسمو على هذا الرُّكامِ؟‏

وهبتُكِ الأسماءَ يا مأساةُ‏

عاليةٌ هي الأسوارُ بين طيورِنا وسمائِنا‏

فخذي عبيرَ هوائنا‏

سنقول عنكِ: أتيتِ من ضلع الكلامِ‏

قصيدةً سجَدَتْ لها الأجداثُ،‏

زوَّجناكِ كلَّ نسائِنا‏

ومشتْ إليكِ شواردُ الأجناسِ تقرأُ لغزكِ الكونيَّ‏

تُنشدُه على أبنائنا‏

من طينةِ المأساةِ كُوِّنَّا، فسبحانَ الَّذي‏

مسَحَ المدى بدمائِنا...‏

... ... ...‏

قال المغنّى: في القصيدةِ أمَّةٌ‏

كم كنتُ أنبشُ في مقابرها لأبحثَ عن كتابٍ‏

لم تزلْ أوراقُه في الغيبِ يسُكِرَها الضَّياعْ‏

قال المغنى: في القصيدةِ، في ضفائِرها، زهورٌ للتّكاثرِ.‏

هل أفاخرُ في القيامةِ بالبنينِ،‏

وحربُنا ابتَعَدتْ وما ابتعَدَتْ؟‏

ستأكلُنا طواحينُ الحروبِ، يؤرِّخُ الدَّمُ وقتنا‏

ويقولُ صمتٌ صمتنا.‏

قل يا نبيَّ الهجرة الأخرى، بأيِّ كواكبِ الرّؤيا نعلّق موتنا‏

وبأيّ ربٍّ يحتمي الوادي المقدَّسُ؟ إنْ مشى‏

وحشُ المعادنِ في الحقولِ ليُسْكِتَ الينبوعَ‏

عن إنشاده؟‏

أفقٌ رمتْ أبعادُهُ لهباً على أبعادِهِ‏

والمعبدُ الرّوحيُّ ألقى فوقَ سورِ اليأس سادنَهُ‏

وأخفى خلسةً ناقوسَهُ، وبكى على عُبَّادِهِ.‏

... ... ...‏

قال المغنيّ: لو حفرتُ على جدار الكهف أسماءَ الهزائمِ‏

غير أنَّ الكهفَ أضيَقُ من هزائِمنا، وقالْ:‏

مالتْ بنا شمسُ الرَّحيل/ وما يزالْ‏

هذا المدى رحماً لميلاد النَّخيل/ فيا رمالْ‏

لا تهتكي سرَّالطّلول/ فكلّنا طللٌ،‏

ولا تستنكري شيبَ الخيولِ/ فكلّنا كهلٌ...‏

ومالْ‏

هذا الفضاءُ على تصدُّعِهِ وأسرفَ في الزَّوالْ...‏

قال المغنيِّ:‏

زحَفَ الخرابُ على أصابِعِهِ وإنيِّ‏

زاحفٌ بحناجري/‏

... ... ...‏

للشّعرِ حنجرةٌ، وللحربِ‏

للموت حنجرةٌ، وللحبِّ‏

بجنود أحلامي سأهبطُ في‏

أرض التَّلاشي خالقاً ربيِّ‏

أرضُ النّبوّة تلكَ مثقَلَةٌ‏

من كاهناتٍ لمْ تعدْ تُـنْبى‏

أرضٌ من التّيجانِ ضائعةٌ‏

في جوف طاغوتٍ بلا شعبِ‏

أرضُ الكنوز جهاتُها اختلطتْ‏

فجنوبُها في شرقها الغربي‏

أرضٌ بسحر السّحر مضّمَرَةٌ‏

نادى عليها الحزن أن هبّي‏

وهبي هواءَكِ بضعَ معجزةٍ‏

تحمي القبيلةَ من يدِ النَّهبِ‏

أرضٌ من الأشلاءِ تَرْصُدُها‏

عينٌ تشعُّ بجمرة الغيبِ‏

نذَرَتْ لماءِ الغير جنَّتها‏

ومضَت بلا زهرٍ، ولا عشبِ...‏

... ... ...‏

هربت قوافلُنا، قريشُ مشَتْ على جثمانِها‏

واستلهمت عكّازَ قاتِلها،‏

على الباب المذهَّب كان فَحْلُ الحلف ينتظر النَّبيّْ‏

قال المغنيْ: عندما قُتلَ النَّبيُّ بكت مآذنُ يثربٍ،‏

ورمت جبالُ الأرض عن أكتافها زهرَ الأمانةِ،‏

وانطوى عهدٌ سترويه الرّياحُ عن العجائزِ...‏

هكذا هربتْ قوافلُنا، فطوبى للهَرَبْ‏

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (علاء الدين عبد المولى) .


ساهم - قرآن ١