يا نجمَ ميسان
مدة
قراءة القصيدة :
6 دقائق
.
(ألقيت في الاحتفال الكبير الذي أقامته محافظة ميسان على مدى يومين تكريماً لشاعرها في الذكرى السابعة والستين لولادته). | |
.... | |
هذا نداؤكِ في سمعي، وفي بصَري | لبَّيكِ.. أيُّ جناحٍ فيَّ لم يَطِرِ؟! |
مَن قال ننسى؟ .. نَسينا العمرَ أجمعَهُ | سوى عُمَيرٍ بسقفٍ منكِ مستَترِ! |
وها أنا.. كلُّ أمواجي، وأشرعتي | تجري.. فَكُلِّي إليكِ الآن في سَفَرِ! |
سرَقتُ ستَّةَ أعوامٍ وطرتُ بها | وعفتُ ستّين يستَعجلْنَ في أثَري! |
يا ليتَ قافلةَ السّتّين لا وصلَتْ | لكنتُ طفلَكِ حتى آخر العُمُرِِ! |
* | |
ميسان.. يا دائرَ الأفلاكِ لا تَدُرِ | عُدْ بي ثلاثةَ أيّامٍ إلى صِغَري! |
إلى "السَّريةِ".. لي بيتٌ بزاويةٍ | فيها.. لِشَطِّ (على الغربي) إلى (المَجرِ) |
لبيتِ جدّي.. وسِرْ هَوناً بساحتِهِ | كانت لنا سدرةٌ ممنوعةُ الثَّمَرِ |
أموتْ شوقاً لها، لكنْ تُعذِّبُني | أفعىً عليها، فأبقى زائغَ النظَرِ |
لليوم والنَّبقُ فيها ملءَ ذاكرتي | وفي حنيني إليها خوفُ مُنذَعِرِ! |
* | |
يا نجمَ ميسان، واعُبْر بي نزورُ معاً | بيتاً (بقلعةِ صالح).. وَيْكَ لا تُنِرِ |
لعلَّ عينَ ابنِ عبد الله غافيةٌ | للآن من كثرةِ الأرهاقِ والسَّهَرِ! |
عُذْرَ الزيارةِ لم يؤذَنْ لصاحبها | أبا سنانٍ.. وإن بالَغتُ في حَذري |
فبَيتُ مثلِكَ قدّيساً، لحُرمتِهِ | تجفُّ حتى أصابيعي على وتَري! |
* | |
يا أهلَ ميسان.. هل بابٌ فأطرقُها | فتستديرُ على مصراعِها الخَفِرِ |
وخلفَها صوتُ (مسعودٍ) يذوبُ جوىً | ومقلتانِ.. سفَحتُ العمرَ وهو طَري |
على مَدارَيهما.. طفلاً بكيتُهما | لحينِ شاخَتْ عناقيدي على شجري! |
وظلَّ (مسعود) حتى اليوم يسألني: | (وين الوَعَدْ وين)؟... يا مسعود.. لا تُثِرِ |
أوجاعَنا.. نحنُ يا مسعودُ أهلُ هوىً | أكوامُ مبتدآتٍ دونَما خَبَرِ! |
دارَ الزَّمانُ بنا عمراً بأكمَلِهِ | وعافنا بين مصدوعٍ، ومُنكِسِرِ |
لا أهلُنا سألوا عنّا، ولا دمُنا | جفَّتْ بقاياهُ يا مسعود في الحُفَرِ! |
* | |
ميسان.. لن أوقظَ الشكوى، فَبي فَرحٌ | أنّي أتيتُ وحبُّ الناسِ مُنتَظِري |
سبَقْتُهُ، وائتزرتُ العمرَ أجمعَهُ | لكي أراكِ وكلُّ العمرِ في أُزُري! |
أقول: هذا أنا الطفلُ الذي ركضَتْ | أقدامُهُ فيكِ.. في الشطآنِ والجُزُرِ |
يا ما بَنَتْ قَطَراتُ الرَّملِ من يَدِهِ | أبياتَ حُبٍّ ولكنْ.. دونَما أُسَرِ |
وظلَّ يحلُمُ عمراُ لو يؤثِّثُها | ويسألُ الله لو تغدو من الحَجَرِ |
ليَستظلَّ بها من لا بيوتَ لهم | أنّى يكونون، من عَمروٍ، من عُمَرِ |
وكان يَرهفُ مثلَ الصَّارمِ الذَّكَرِ | وراح يكتبُ شعراً موحِشَ النُّذُرِ |
أضحى لـه قصَبُ الأهوارِ نايَ هوىً | وصار بَرديُّها زاداً على السَّفَرِ |
فكم بذاكرةِ (الخرّيط) من وَجعٍ | وكم بها من حنينِ العُسرِ لليُسُرِ! |
* | |
ميسان.. رُدِّي لهذا الشيخ بعضَ ندىً | ممّا جرى فيكِ من ينبوعِهِ الغَضِرِ |
أيامَ رفَّ على الكحلاءِ مرتجفاً | كما يرفُّ جناحُ الطيرِ في المطرِ! |
كانت شَواطيكِ مَرسى كلِّ أشرعتي | وما تزالُ قناديلي على كِبَري |
ما قلتُ شعراً ولم تلمَعْ بقافيتي | نُجَيمَةٌ منكِ جَدْحَ النارِ بالشَّرَرِ! |
أكادُ أشعرُ حتى في دبيبِ دمي | أجراسَ شَطِّكِ بين الصَّحوِ والخَدرِ |
يُوقظْنَ أيَّ رنينٍ بين أوردتي | قَرْعَ النَّواقيسِ في مقفولَةِ الحُجَرِ! |
تضجُّ حتى أضاليعي يَطْرنَ بها | دوامعاً بين مَشروخٍ، ومُنفَطرِ |
مَن لي بها الآن في وِرْدي، وفي صَدَري | من لي بها وأنا في ذروةِ الكدَرِ |
تُعيدني لبراءاتي.. لأدعيَتي | لنخلةٍ وَشِِمَتْ وشماً على قَدَري |
مَن لي بها..؟.. ليت خيلَ العمر ما ركضَتْ | وليتَ قافلةَ السِّتِّين لم تَسِرِ! |
* | |
ميسان.. هل قلتُ شيئاً تغضبينَ لَهُ؟ | أخافُ من وجعي حيناً، ومن ضَجَري |
وأنتِ لي وجَعٌ أبقى أنوءُ بهِ | منذُ ابنِ عامَين حتى آخرِ العُمُرِ! |
أنتِ التي أرضعَتْني حبَّها، وبهِ | لمّا تَعلَّمتُ أمشي، قَوَّمتْ عَثَري |
بالحبِّ، ثمَّ الأسى.. دَثَّرتنِي عُمُراً | وما أزالُ الأسى والحبُّ مدَّثَري |
فكلُّ شعري، وحتى ما أثورُ بهِ | لولا جنونيَ فرطَ الحبِّ لم يَثُرِ! |
يا نَبْعَةَ الطِّيبِ، يا مسدولَةَ السُّتُرِ | يا أمَّ أطيَبِ مَن في الأرضِ من بَشَرِ |
ويا كريمَةَ نفسٍ، من طفولتِها | لليوم، تُطحنُها الدُّنيا، ولم تَجُرِ |
بَلْ كلَّما ظُلِمَتْ زادتْ مروءتُها | وكلَّما ضُرَّتْ استعصَتْ على الضَررِ! |
وكلَّما عصَرتْ أوجاعُها دمَها | ضجَّتْ، فلم تُعطِ تَنفيساً لمُعتَصِرِ! |
* | |
ميسان.. واحتملِي نَزفي على كِبرَي | علَّمتنِي أنتِ.. مِن مَجرى دمي عِبَري |
وأنتِ مجرى دمي.. هل تذكرين بهِ | كم، دون علمٍ، دخَلْنا دارةَ الخطَرِ؟! |
ساءلتُ ذاكرةَ السّتّين.. هل بلغَتْ | حدَّ التَّورُّطِ في نسيانِها ذِكَري؟! |
إنّي عهدتُكِ يا نيسان مملكةً | للماء.. ما اتَّكأتْ إلا على نَهَرِ! |
عَهْدتُ زرعَكِ تَسبي العينَ خُضرتُهُ | للهِ بَيدرُهُ من بيدَرٍ نَضِرِ |
عَهدْتُ أهلَكِ والأهدابُ حالمةٌ | كأنَّما زُرِعتْ في دارةِ القَمَرِ! |
فما الذي سَلَبَ الأيام رونقَها | في مقلَتيكِ فسالَ الكحلُ في الحَوَرِ؟! |
وما لكلِّ درابيني وأرصِفَتي | كأنَّها أسرفَتْ في الضِّيقِ والقِصَرِ؟ |
وكلُّ دارٍ بها أخفَتْ نوافذَها | وطأطأتْ سقفَها من شدَّةِ الحذَرِ! |
من قبلِ ستِّين كنتِ الحُسنَ أجمعَهُ | هل شختِ ميسان؟ أم شاخَتْ يَدُ القدَرِ؟! |
أم أنَّنا كلَّنا شاختْ معالمُنا | مِن وحشةِ العمرِ, أو من وحشةِ الغيَرِ! |
*** | |
ميسان.. لا تُطفئي قنديلَ أوردتي | حملتُهُ والهاً من أبعَدِ العُصُرِ |
لكي أَضيءَ به عمراً مَلاعبُهُ | ما زلْنَ بين صناديقي, وفي صُرَري! |
أفكُّها كلَّما اسوَدَّتْ يدي ندمَاً | لأستعيدَ اخضرارَ الماء في شجري! |
كوني لقافيَتي ميسان أشرعةً | أو كالمشاحيف مُرِّي بي على صِغَري |
لعلَّني حين أغفو أطمئنُّ على | إطباقِ كلِّ محاراتي على دُرَري! |
_____________ | |
هوامش | |
قلعة صالح : قضاء من أقضية ميسان عاش فيه العالم العراقي الكبير عبد الجبار عبد الله طفولته وصباه. | |
الخرّيط : نوع من الحلوى تصنع من ثمر البرديّ. |