شَرِبتُ كأسي أمام نفسي
مدة
قراءة القصيدة :
3 دقائق
.
شَرِبتُ كأسي أمام نفسي | وقلتُ يا نفسُ ما المَرام |
حياةُ شَكٍّ وموتُ شكٍّ | فلنَغمُرِ الشَكَّ بالمُدام |
آمالُنا شَعشَعت فغابت | كالآلِ أبقى لنا الأوام |
لا بأس ليس الحياةُ إلّا | مَرحَلةٌ بَدوَّها خِتام |
إِن هبَّت الريحُ من جَنوبٍ | يَهُبُّ حُزني من الشَّمال |
وكلُّ ريحٍ لها سُكونٌ | إلّا الأسى هاجَه المَلال |
يَئِنُّ قلبي على حبيبي | ولا حَبيبٌ إِلّا الخَيال |
يا نفسُ صَبراً على البَلايا | فكلُّ شيءٍ إلى زَوال |
أخَذتُ نفسي إلى طَبيبي | وقلتُ يا طَبُّ ما العِلاج |
فراحَ يأسو سَقامَ جِسمي | ويحسِبُ الداءَ في المِزاج |
فقلتُ يا صاحِ جَفَّ زَيتي | فَباطلاً تجبُرُ السِّراج |
اذا خَبا النُورُ في الدَرارِي | فما تُرى يَنفَعُ الزُجاج |
وسِرتُ والقَلبَ في اصطحاب | نَقفو هَوىً مرَّ في العَجاج |
أنا وعيني نَطيرُ شَوقاً | نَسيرُ رَكضاً بلا انزِعاج |
والقلبُ حافٍ يَمشي الهُوَينا | على شَظايا من الزُجاج |
طلبتُ قلبي فلم أجِدهُ | أماتَ أم ضلَّ في الفُجاج |
وعُدتُ نحو الوَرى فَريداً | يسوقُني العقلُ بالسِياط |
فصحتُ يا ناسُ ماتَ قلبي | طفلاً وما زال في القِماط |
هل تَقبَلوني بلا فؤادٍ | قالوا وهل مَسَّكَ اختِلاط |
أُنظرُ على الأرضِ كم قلوبٍ | دِيسَت لدَينا على السِراط |
ربّاهُ ما أكثر الضَّحايا | ماتوا زِحاماً على الدُروب |
كلُّ الوَرى مَوكبٌ مَهيبٌ | يسيرُ في مَأتمِ القلوب |
يمشونَ والرَّمسُ في حَشاهم | والدَمُ يَجري من النُدوب |
ما ميتَهم يُعظِمون قَدراً | بل ديةَ المَيتِ في الجُيوب |
يا نفسُ رُحماكِ أين نَمضي | فما أمامي سِوى قُبور |
قد سامَكِ العقلُ سَوم علجٍ | ما لا تُطِيقين من أُمور |
فَلنتَرُكِ العقلَ حيثُ يَبغى | فليسَ للعَقلِ من شُعور |
أَتترُكِينَ الأنامَ تَركاً | نُحرِقُ من بعدِهِ الجُسور |
فصاحت النفسُ بي وقالت | ما لي وللناسِ والزِّحام |
أصبتِ يا نفسُ فاتبعِيني | فليسَ كالغابِ من مَقام |
يا غابُ جِئناكَ للتَعرِّي | أنا ونفسي ولا حَرام |
فَليُذِعِ الغُصنُ ما يراه | منا اذا أحسنَ الكَلام |
وقالت النفسُ لي أتدري | ما تَقصُدُ الدَوحُ بالحَفيف |
ذا الغصنُ يَبكي على طُيورٍ | أطرَبَه شَدوُها اللَطيف |
طارت وليست تَعودُ حتى | يَخضَرَّ من دَوحِهِ اللَفيف |
لو أنَّ هذي الأشجارَ تَمشي | سارت إلى حيثُ لا خَرِيف |
يا نفسُ إِنَّ الحَفيفَ لُغزٌ | تَفهَمُه الشمسُ والسَحاب |
ما ذاك شَكوى بل ذاك نَجوى | من باطِنِ الأرضِ في التُراب |
نَجوى أصولٍ تَحنُّ شَوقاً | إلى سوى الريّ والشَراب |
تَهُزُّها كلَّما استَكنَّت | ذِكرى شُموسٍ بلا غِياب |
كم دَوحةٍ لا يَبينُ منها | إلا قليلٌ من الكثير |
فُروعُها والغصونُ جُزءٌ | بدا ولكنَّه حَقير |
وتحتَ سطحِ الثَرى أُصولٌ | مَحجوبةٌ حَجمُها وَفِير |
فيها حياةُ الغُصونِ لكن | لَدَى الوَرى شَأنُها صَغير |
لو حدَّقَ المرءُ في البَرايا | لَشامَ ما لا تَرى العُيون |
ما حولَنا عالَمٌ خَفيّ | تُدركُه الرُوحُ في السُكون |
كَم مُبصِرٍ لا يَرى وأعمى | يَرى ويَدري الذي يَكون |
يا وَيحَ من لا يَرَونَ شَيئاً | إِلّا اذا فتَّحوا الجُفون |