الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه |
والعابرون، إلى القرارة... مثل أغنية حزينه. |
وتفتحت كأزاهر الدفلي، مصابيح الطريق، |
كعيون ""ميدوزا""، تحجِّر كلّ قلب بالضغينهْ، |
وكأنّها نذرٌ تبشر أهل ""بابل"" بالحريق |
*** |
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف |
من أي وجر للذئاب؟ |
من أي عش في المقابر دفّ أسفع كالغراب؟ |
""قابيل"" أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف |
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء |
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء |
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينةْ، |
والليل زاد لها عماها. |
والعابرون: |
الأضلع المتقوّسات على المخاوف والظنون، |
والأعين التعبى تفتِّش عن خيالٍ في سواها |
وتعد آنية تَلَأْلأُ في حوانيت الخمور: |
موتى تخاف من النشور |
قالوا سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور! |
أحفاد ""أوديب"" الضرير ووارثوه المبصورن. |
"جوكست" أرملة كأمس، وباب ""طيبة"" ما يزال |
يلقي ""أبو الهول"" الرهيب عليه، من رعب ظلال |
والموت يلهث في سؤال |
باقٍ كما كان السؤال، ومات معناه القديم |
من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه. |
وما الجواب؟ |
""أنا"" قال بعض العابرين... |
وانسلّت الأضواء من باب تثاءب كالجحيم |
تطفو عليهنّ البغايا كالفراشات العِطَاش |
يبحثن في النيران عن قطرات ماء... عن رشَاش. |
*** |
لا تثقلنَّ خطاك فالمبغى ""علائي"" الأديم: |
أبناؤك الصرعى تراب تحت نعلك مستباح، |
يتضاحكون ويُعوِلُون. |
أو يهمسون بما جناه أبٌّ يُبَرِّئُه الصباح |
مما جناه، ويتبعون صدى خطاك إلى السكون |
*** |
الحارس المكدود يعبر والبغايا متعبات، |
النون في أحداقهن يرفُّ كالطير السجين، |
وعلى الشفاه أو الجبين |
تترنح البسمات والأصباغ ثكلى، باكيات، |
متعثرات بالعيون وبالخطى والقهقهات، |
وكأن عاريات الصدور |
أوصال جندي قتيل كلِّلُوها بالزهور، |
وكأنها درج إلى الشهوات، تزحمه الثغور |
حتى تَهَدّمَ أو يكاد. سوى بقايا من صخور. |
*** |
جِيَفٌ تستّر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها |
أن الطفولة فجّرَتْها ذات يومٍ بالضياء |
كالجدول الثرثار - أو أن الصباح رأى خطاها |
في غير هذا الغار تضحك للنسائم والسماء، |
ويكاد ينكر أن شقًّا لاح من خلل الطلاء |
قد كان - حتى قبل أعوام من الدم والخطيئة - |
ثغرًا يكركر، أو يثرثر بالأقاصيص البريئه |
لأبٍ يعود بما استطاع من الهدايا في المساء |
لأبٍ يقبِّل وجه طفلته النَّدِيِّ أو الجبينْ |
أو ساعدين كفرختين من الحمائم في النقاءْ. |
ما كان يعلم أن ألف فمٍ كبئر دون ماءْ |
ستمص من ذاك المحيا كل ماء للحياء |
حتى يجف على العظام - وأن عارًا كالوباء |
يَصِمُ الجباه فليس تُغسل منه إلا بالدماء |
سيحل من ذاك الجبين به ويلحق بالبنين - |
والساعدين الأبيضين، كما تنوَّرُ في السهول |
تفاحة عذراء، سوف يطوِّقان مع السنين |
كالحيتين، خصور آلاف الرجال المتعبين |
الخارجين خروج آدم، من نعيمٍ في الحقول |
تفاحُةُ الدَّمُ والرغيف وجرعتان من الكحول |
والحية الرقطاء ظِلٌّ من سياط الظالمين |
يا أنت، يا أحد السكارى |
يا من يريد من البغايا ما يريد من العذارى: |
"ما ظلَّ يحلم، منذ كان به ويزرع في الصحارى |
زبد الشواطئ والمحارا |
مترقبًا ميلاد " أفروديت" ليلا أو نهارا " |
أتريد من هذا الحطام الآدمي المستباح |
دفءَ الربيع وفرحة الحمل الغرير مع الصباحْ |
ودواء ما تلقاه من سأم ٍوذلٍ واكتداحْ ؟ |
المال، شيطان المدينهْ |
لم يحظَ، من هذا الرهان، بغير أجسادٍ مهينهْ |
« فاوست » في أعماقهن يعيد أغنيَةً حزينهْ |
المال، شيطان المدينة، ربُّ « فاوست » الجديد |
جارت على الأثمان وفرة ما لديه من العبيد |
الخبز والأسمال حظُّ عبيده المتذللين |
مما يوزع من عطايا، لا اللآلئ والشبابْ |
والمومس العجفاء لا « هيلين » والظمأ اللعين |
لا حكمة الفرح المجنح والخطيئة والعذاب |
الخيل من سأمٍ تحمحم وهي تضرب بالحوافر |
حجر الطريق |
هلمَّ فالحوذي يبحث عن مسافر |
والريح صرٌّ، والبغي بلا زبائن منذ حين |
إن لم تضاجعها وصدَّ سواك عنها معرضين |
فكيف تحيا؟ وهي، مثلك لا تعيش بلا طعام؟ |
لا تخشَ منها أن تراع بما تَأَكَّلَهُ الجذام |
من صدرك النخر العريض، وأنت ويحك يا أخاها |
ماذا تريد، وعمَّ تبحث في الوجوه؟ ويا أباها |
اطعنْ بخنجرك الهواء فأنتما لن تقتلاها |
هي لن تموتْ |
سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت |
ستظل ما دامت سهام التبر تصفر في الهواء |
تعدو، ويتبعها « أبولو » من جديد كالقضاء |
وتظل تهمس، إذ تكاد يداه أن تتلقَّفاها: |
بيد أنك لا تصيخ إلى النداء «! أبتي أغثني » |
لو كنت من عرق الجبين ترشُّها ومن الدماء |
وتحيلها امرأة بحقٍ، لا متاعًا للشراء |
كللتَ منها، بالفخار وبالبطولات، الجباها! |
وكأنّ الحاظ البغايا |
إبر تسل بها خيوط من وشائع في الحنايا |
وتظل تنسج، بينهن وبين حشد العابرين، |
شيئا كبيت العنكبوت يخضه الحقد الدفين: |
حقد سيعصف بالرجال |
والأخريات، النائمات هناك في كنف الرجال |
والساهرات على المهود وفي بيوت الأقربين |
حول الصلاء بلا اطراح للثياب ولا اغتسال |
في الزمهرير، ودون عد لليالى والسنين! |
ويمر عملاق يبيع الطير، معطفه الطويل |
حيران تصطفق الرياح بجانبيه، وقبضتاه |
تتراوحان: فللرداء يد وللعبء الثقيل |
يد، وأعناق الطيور مرنحات من خطاه |
تدمي كأثداء العجائز يوم قطعها الغزاه |
خطواته العجلي، وصرخته الطويلة ""يا طيور |
هذي الطيور، فمن يقول تعال..."" |
أفزعها صداه |
وتحسسته كأن باصرة تهم ولا تدور |
في الراحتين وفي الأنامل وهي تعثر بالطيور، |
وتوسلته: ""فدى لعينك - خلني. بيدي أراها"". |
ويكاد يهتك ما يغلف ناظريها من عماها |
قلب تحرق في المحاجر واشرأب يريد نور! |
وتمس أجنحة مرقطة فتنشرها يداها، |
وتظل تذكر - وهي تمسحهن - أجنحة سواها |
كانت تراها وهي تخفق... ملء عينيها تراها: |
سرب من البط المهاجر، يستحث إلى الجنوب |
أعناقه الجذلى... تكاد تزيد من صمت الغروب |
صيحاته المتقطعات، وتضمحل على السهوب |
بين الضباب، ويهمس البريد بالرجع الكئيب |
ويرج وشوشة السكون |
طلق... فيصمت كل شيء... ثم يلغط في جنون. |
هي بطة فلم انتفضت؟ وما عساها أن تكون؟ |
ولعل صائدها أبوك، فإن يكن فستشبعون. |
وتخف راكضة حيال النهر كي تلقى أباها: |
هو خلف ذاك التل يحصد. سوف يغضب إن رآها. |
مر النهار ولم تعنه... وليس من عون سواها |
وتظل ترقى التل وهي تكاد تكفر من أساها. |
يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد؟ |
لا تمهليها فالعذاب بأن تمري في اتئاد. |
قصي عليها كيف مات وقد تضرّج بالدماء |
هو والسنابل والمساء - |
وعيون فلاحين ترتجف المذلّة في كواها |
والغمغمات: ""رآه يسرق""... ""واختلاجات الشفاه |
يخزين ميتها، فتصرخ يا إلهي، يا إلهي |
لو أن غير ""الشيخ""، وانكفأت تشد على القتيل |
شفتين تنتقمان منه أسى وحبا والتياعا |
وكأن وسوسة السنابل والجداول والنخيل |
أصداء موتى يهمسون رآه يسرق في الحقول |
حيث البيادر تفصد الموتى فتزداد اتساعا |
وتحس بالدم وهو ينزف من مكان في عماها |
كالماء من خشب السفينة، والصديد من القبور، |
وبأدمع من مقلتيها كالنمال على الصخور |
أو مثل حبات الرمال مبعثرات في عماها |
يهوين منه إلى قرارة قلبها آها فآها. |
ومن الملوم وتلك أقدار كتبن على الجبين؟ |
حتم عليها أن تعيش بعرضها، وعلى سواها |
من هؤلاء البائسات وشاء رب العالمين |
ألا يكون سوى أبيها - بين آلاف - أباها |
وقضى عليه بأن يجوع |
والقمح ينضج في الحقول من الصباح إلى المساء |
وبأن يلص فيقتلوه... (وتشرأب إلى السماء |
كالمستغيثة وهي تبكي في الظلام بلا دموع) |
والله - عز الله - شاء |
أن تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق |
آلاف آلاف الجنود ليستبيحوا، في زقاق |
دون الأزقة أجمعين |
ذاك اسم جارتها الجديد، فليتها كانت تراها |
هل تستحق اسما كهذا: ياسمين وياسمين؟ |
يا ليت حمالا تزوجها يعود مع المساء |
لكن بائسة سواها حدثتها منذ حين |
عن بيتها وعن ابنتيها، وهي تشهق بالبكاء |
كالغيمة السوداء تنذر بالمجاعة والرزايا، |
أزراره المتألقات على مغالق كل باب |
مقل الذئاب الجائعات ترود غابا بعد غاب |
وخطاه مطرقة تسمر، في الظلام، على البغايا |
أبوابهن، إلى الصباح - فلا تجاهر بالخطايا |
ويظل يخفرهن من شبع وينثر في الرياح |
أغنية تصف السنابل والأزاهر والصبايا، |
وتظل تنتظر الصباح وساعديه مع الصباح |
تصغى - وتحتضن ابنتيها في الظلام - إلى النباح |
وإلى الريح تئن كالموتى وتعول كالسبايا |
وتجمع الأشباح من حفر الخرائب والكهوف |
ومن المقابر والصحاري بالمئات وبالألوف.. |
فتقف من فزع وتحجب مقلتيها بالغطاء، |
ويعود والغبش الحزين يرش بالطل المضاء |
سعف النخيل... يعود من سهر يئن ومن عياء |
- كالغيمة اعتصرت قواها في القفار، وترتجيها |
عبر التلال قوي تجوع - لكي ينام إلى المساء: |
عيش أشقّ من المنيّة، وانتصار كالفناء |
وطوى يعب من الدماء وسمّ أفعى في الدماء |
وعيون زان يشتهيها، كالجحيم يشعّ فيها |
سخر وشوق واحتقار، لاحقتها كالوباء |
والمال يهمس أشتريك وأشتريك فيشتريها |
يا ليتها إذن انتهى أجل بها فطوى أساها! |
لو أستطيع قتلت نفسي.. همسة خنقت صداها |
أخرى توسوس: والجحيم؟ أتصبرين على لظاها؟ |
وإذا اكفهر وضاق لحدك، ثم ضاق، إلى القرار |
حتى تفجر من أصابعك الحليب رشاش نار |
وتساءل المَلَكان فيم قتلت نفسك يا أثيمه؟ |
وتخطفاك إلى السعير تكفّرين عن الجريمه. |
أفتصرخين أبي فينفض راحتيه من الغبار |
ويخف نحوك وهو يهتف قد أتيتك يا سليمه؟ |
حتى اسمها فقدته واستترت بآخر مستعار |
هي - منذ أن عميت - ""صباح""... |
فأي سخرية مريره! |
أين الصباح من الظلام تعيش فيه بلا نهار |
وبلا كواكب أو شموع أو كوى وبدون نار؟ |
أو بعد ذلك ترهبين لقاء ربك أو سعيره؟ |
القبر أهون من دجاك دجى وأرفق، يا ضريره |
يا مستباحة كالفريسة في عراء يا أسيره |
تتلفتين إلى الدروب ولا سبيل إلى الفرار؟ |
وتحس بالأسف الكظيم لنفسها: لم تستباح؟ |
ألهر نام على الأريكة قربها... لم تستباح؟ |
شبعان أغفى، وهي جائعة تلم من الرياح |
أصداء قهقهة السكارى في الأزقة، والنباح |
وتعد وقع خطى هنا وهناك: ها هو |
هو ذا يجيء - وتشرئبّ، وكاد يلمس ... ثم راح |
وتدقّ في أحد المنازل ساعة... لم تستباح؟ |
الوقت آذن بانتهاء والزبائن يرحلون. |
كالدرب تذرعه القوافل والكلاب إلى الصباح؟ |
الجوع ينخر في حشاها، والسكارى يرحلون، |
مروا عليها في المساء وفي العشية ينسجون |
حلما لها هي والمنون: |
عصبات مهجتها سداه وكل عوق في العيون، |
والآن عادوا ينقضون - |
خيطا فخيطا من قرارة قلبها ومن الجراح - |
ما ليس بالحلم الذي نسجوا ما لا يدركون ... |
شيئا هو الحلم الذي نسجوا وما لا يعرفون، |
هو منه أكثر: كالحفيف من الخمائل والرياح، |
والشعر من وزن وقافية ومعنى، والصباح - |
من شمسه الوضاء... وانصرفواسكارى يضحكون! |
ستعيش للثأر الرهيب |
والداء في دمها وفي فمها. ستنفث من رداها |
في كل عرق من عروق رجالها شبحا من الدم واللــهيب |
شبحا تخطف مقلتيها أمس، من رجل أتاها |
سترده هي للرجال، بأنهم قتلوا أباها |
وتلقفوها يعبثون بها وما رحموا صباها، |
لم يبتغوها للزواج لأنها امرأة فقيره، |
واستدرجوها بالوعود لأنها كانت غريره، |
وتهامس المتقولون فثار أبناء العشيره |
متعطشين - على المفارق والدروب - إلى دماها. |
وكأن موجة حقدها ورؤى أساها. |
كانت تقرب من بصيرة لبها صورا علاها |
صدأ المدينة وهي ترقد في القرارة من عماها: |
كل الرجال؟ وأهل قريتها؟ أليسوا طيبين؟ |
كانوا جياعا - مثلها هي أو أبيها - بائسين، |
هم مثلها - وهم الرجال - ومثل آلاف البغايا |
بالخبز والأطمار يؤتجرون، والجسد المهين |
هو كل ما يتملكون، هم الخطاة بلا خطايا |
ليس الذين تغصبوها من سلالة هؤلاء: |
كانوا مقطبة الجباه من الصخور |
ثمتص من فزع الضحايا زهوها ومن الدماء |
متطلعين إلى البرايا كالصواعق من علاء! |
وتحس، في دمها، كآبة كل أمطار الشتاء |
من خفق أقدام السكارى، كالأسير وراء سور |
يصغي إلى قرع الطبول يموت في الشفق المضاء. |
هي والبغايا خلف سور، والسكارى خلف سور، |
دميت أصابعهن: تحفر والحجارة لا تلين، |
والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين: |
وطلول مقبرة تضم رفات ""هابيل"" الجنين! |
سور كهذان حدثوها عنه في قصص الطفوله: |
""يأجوج"" يغرز فيه، من حنق أظافره الطويله |
ويعض جندله الأصم، وكف ""مأجوج"" الثقيله |
تهوي، كأعنف ما تكون على جلامده الضخام. |
والسور باق لا يثل... وسوف يبقي ألف عام، |
الطفل شاب وسورها هي ما يزال كما رآه |
من قبل يأجوج البرايا توأم هو للسعير! |
لص الحجارة من منازل في السهول وفي الجبال |
يتواثب الأطفال في غرفاتها ويكركرون... |
والأمهات يلدن والآباء للغد يبسمون، |
لم يبق من حجر عليها فهي ريح أو خيال. |
وأدار من خطم البلاد رحى، وساط من البطون |
ما ترتعيه رحاه من لحم الأجنة والعظام، |
وكشاطئين من النجوم على خليج من ظلام |
يتحرقان ولا لقاء ويخمدان سوى ركام - |
شق الرجال عن النساء سلالتين من الأنام |
تتلاقيان مع الظلام وتفصلان مع الشروق: |
لو يقطعون الليل بحثا والنهار - على سواها |
في حسنها هي؟ في غضارة ناهديها أو صباها |
وبسعرها هي ؟ أي شيء غير هذا يبتغون؟ |
عمياء أنت وحظك المنكود أعمى يا سليمه. |
وتلوب أغنية قديمه |
في نفسها وصدى يوشوش: يا سليمه، سليمه |
نامت عيون الناس. آه... فمن لقلبي كي ينيمه؟ |
ويل الرجال الأغبياء، وويلها هي، من عماها! |
لم أصبحوا يتجنبون لقاءها؟ |
عيونها، فيخلفوها وحدها إذ يعلمون |
بأنها عمياء؟ فيم يكابرون ومقلتاها |
أدري وتعرف أي شيء في البغايا يشتهون |
بنظرة قمراء تغصبها من الروح الكسيره |
لترش أفئدة الرجال بها، وكانوا يلهثون |
في وجهها المأجور، أبخرة الخمور، ويصرخون |
كالرعد في ليل الشتاء |
ولعل غيره ""ياسمين"" وحقدها سبب البلاء |
فهي التي تضع الطلاء لها وتمسح بالذرور |
وجها تطفأت النواظر فيه.... |
كيف هو الطلاء؟ |
وكيف أبدو؟ |
- وردة ... قمر... ضياء! |
زور.. وكل الخلق زور، |
والكون مين وافتراء |
لو تبصر المرآة - لمحة مقلتيها - لو تراها |
- لمح النيازك - ثم تغرق من جديد في عماها! |
برق ويطفأ... ثم تحكم فرقها بيد، وفاها |
بيد، وترسم بالطلاء على الشفاه لها شفاها |
شفتاك عارية وخدك ليس خدك يا سليمه، |
ماذا تخلف منك فيك سوى الجراحات القديمه؟ |
وتضم زهرة قلبها العطشى على ذكرى أليمه: |
تلك المعابثة اللعوب... كأنها امرأة سواها! |
كالجدولين تخوض ماءهما الكواكب - مقلتاها، |
والشعر يلهث بالرغائب والطراوة والعبير |
وبمثل أضواء الطريق نعسن في ليل مطير، |
تقتات بالعسل النقي وترتدي كسل الحرير. |
ليت النجوم تخر كالفحم المطفأ والسماء |
ركام قار أو رماد، والعواصف والسيول |
تدك راسية الجبال ولا تخلف في المدينة من بناء! |
أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء |
حتى بوهم أو برؤيا، أن عيش بلا رجاء... |
أو ليس ذاك هو الجحيم؟ أليس عدلا أن يزول؟ |
شبع الذباب من القمامة في المدينة، والخيول |
سرحن من عرباتهن إلى الحظائر والحقول، |
والناس ناموا - |
هذا الذي عرضته كالسلع القديمة: كالحذاء، |
أو كالجرار الباليات، كأسطوانات الغناء... |
هذا الذي يأبي عليها مشتر أن يشتريه |
قد كان عرضا - يوم كان - ككل أعراض النساء! |
كان الفضاء يضيق عن سعة، وترتخص الدماء |
إن رنق النظر الأثيم عليه. كان هو الإباء |
والعزة القعساء والشرف الرفيع. فشاهديه |
يا أعين الظلماء، وامتلئي بغيظك وارجميه |
بشواظ عارك واحتقارك يا عيون الأغبياء! |
للموت جوعا، بعد موتي - ميتة الأحياء - عارا. |
لا تقلقوا.. فعماي ليس مهابة لي أو وقارا. |
مازلت أعرف كيف أرعش ضحكتي خلل الرداء |
كالقمح لونك يا ابنة العرب، |
كالفجر بين عرائش العنب |
أو كالفرات، على ملامحه |
دعة الثرى وضراوة الذهب. |
عربية أنا: أمتى دمها |
خير الدماء... كما يقول أبي. |
تجري دماء الفاتحين. فلوثوها، يا رجال |
أواه من جنس الرجال... فأمس عاث بها الجنود |
الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود |
يا ليت للموتى عيونا من هباء في الهواء |
ترى شقائي |
إلا العفاة المفلسين. |
أنا زهرة المستنقعات، أعب من وحل وطين |
وأشع لون ضحى... |
وذكرا بجعجعة السنين |
سعالها. ذهب الشباب!! |
ذهب الشباب!! فشيعيه مع السنين الأربعين |
ومع الرجال العابرين حيال بابك هازئين. |
وأتي المشيب يلف روحك بالكآبة والضباب، |
فاستقبليه على الرصيف بلا طعام أو ثياب، |
يا ليتك المصباح يخفق ضوءه القلق الحزين |
في ليل مخدعك الطويل، وليت أنك تحرقين |
دما يجف فتشترين |
سواه: كالمصباح والزيت الذي تستأجرين. |
عشرون عاما قد مضين، وشبت أنت، وما يزال |
يذرذر الأضواء في مقل الرجال. |
لو كنت تدخرين أجر سناه ذاك على السنين |
أثريت.. |
ها هو ذا يضيء فأي شيء تملكين؟ |
ويح العراق! أكان عدلا فيه أنك تدفعين |
سهاد مقلتك الضريره |
ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيره؟ |
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟ |
عشرون عاما قد مضين، وأنت غرثى تأكلين |
بنيك من سغب، وظمأى تشربين |
حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين! |
وكزارع له البذور |
وراح يقتلع الجذور |
من جوعه، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور |
ولا تنفست السنابل فيه... |
ليس سوى الصخور |
سوى الرمال، سوى الفلاه - |
خنت الحياة بغير علمك، في اكتداحك للحياه! |
كم رد موتك عنك موت بنيك. إنك تقطعين |
حبل الحياة لتنقضيه وتضفري حبلا سواه، |
حبلا به تتعلقين على الحياة: تضاجعين |
ولا ثمار سوى الدموع، وتأكلين، |
وتسهرين ولا عيون، وتصرخين ولا شفاه، |
وغدا. وأمس ... وألف أمس - كأنما مسح الزمان |
حدود ما لك فيه من ماض وآت |
ثم دار، فلا حدود |
ما بين ليلك والنهار، وليس، ثم، سوى الوجود |
سوى الظلام، ووطء أجساد الزبائن، والنقود، |
ولا زمان، سوى الأريكة والسرير، ولا مكان! |
لم تسحبين ليالى السأم المسهدة الرتيبه؟ |
ما العمر؟ ما الأيام؟ عندك، ما الشهور؟ وما |
السنين؟ |
ماتت ""رجاء"" فلا رجاء ثكلت زهرتك الحبيبه! |
بالأمس كنت إذا حسبت فعمرها هي تحسبين. |
كانت عزاءك في المصيبه، |
وربيع قفرتك الجديبه. |
كانت نقاءك في الفجور، ونسمة لك في الهجير، |
وخلاصك الموعود، والغبش الالهي الكبير! |
ما كان حكمه أن تجيء إلى الوجود وأن تموت؟ |
ألتشرب اللبن المرنق بالخطيئة واللعاب: |
أو شال ما تركته في ثدييك أشداق الذئاب؟ |
مات الضجيج وأنت، بعد، على انتظارك |
تتنصتين، فتسمعين |
رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه: |
الباب أوصد |
ذاك ليل مر... |
فانتظري سواه. |