رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها |
تطاردها وراء الليل أشباح الفوانيس |
سمعت نشيج باكيها |
و صرخة طفلها و ثغاء صاد مواشيها |
وفي وهج الظهيرة صارخا يا حادي العيس |
وعلى ألم مغنيها |
و لكن لم أر الأموات يطردهن حفار |
من الحفر العتاق و يترع الأكفان عنها أو يغطيها |
و لكن لم أر الأموات قبل ثراك يجليها |
مجون مدينة و غناء راقصة و خمّار |
يقول رفيقي السكران دعها تأكل الموتى |
مدينتا لتكبر تحضن الأحياء تسقينا |
شرابا من حدائق برسفون تعلّنا حتى |
تدور جماجم الأموات من سكر مشى فينا |
مدينتنا منازلها رحى و دروبها نار |
لها من لحمنا المعروك خبز فهو يكفيها |
علام تمد للأموات أيديها و تختار |
تلوك ضلوعها و تقيئها للريح تسفيها |
تسلّل ظلها الناريّ من سجن و مستشفى |
ومن مبغى و من خمارة من كل ما فيها |
و سار على سلالم نومنا زحفا |
ليهبط في سكينة روحنا ألما فيبكيها |
و كانت إذ يطلّ الفجر تأتيك العصافير |
تساقط كالثمار على القبور تنقّر الصمتا |
فتحلم أعين الموتى |
بكركرة الضياء و بالتلال يرشّها النور |
و تسمع ضجة الأطفال أمّ ثلاثة ضاعوا |
يتامى في رحاب الأرض إن عطشوا و إن جاعوا |
فلا ساق و لا من مطعم في الكوخ ظلوا و اعتلى النعش |
رؤوس القوم و الأكتاف ..أفئدة و أسماع |
و لا عين ترى الأمّ التي منها خلا العشّ |
و في الليل |
إذا ما ذرذر الأنوار في أبد من الظلمة |
ودبّت طفلة الكفّين عارية الخطى نسمة |
تلمّ من المدينة كالمحار و كالحصى من شاطئ رمل |
نثار غنائها و بكائها لم تترك العتمة |
سوى زبد من الأضواء منثور |
يذوب على القبور كأنه اللبنات في سور |
يباعد عالم الأموات عن دنيا من الذلّ |
من الأغلال و البوقات و الآهات و الزّحمة |
و أوقدت المدينة نارها في ظلّة الموت |
تقلّع أعين الأموات ثم تدسّ في الحفر |
بذور شقائق النعمان تزرع حبة الصمت |
لتثمر بالرنين من النقود و ضجّة السفر |
و قهقهة البغايا و السكارى في ملاهيها |
و عصّرت الدفين من النهود بكل أيديها |
تمزّقهن بالعجلات و الرقصات و الزمر |
و تركلهنّ كالأكر |
تفجرها الرياح على المدارج في حواشيها |
و حيث تلاشت الرعشات و الأشواق و الوجد |
و عاد الحب ملمس دودة و أنين إعصار |
تثاءبت المدينة عن هوى كتوقد النار |
تموت بحرها ورمادها و دخانها الهاري |
و يا لغة على الأموات أخفى من دجى الغابة |
ترددها المقاهي ذلك الدلال جاء يريد أتعابه |
إذا سمعوك رن كأنه الجرس الجديد يرن في السحر |
صدى من غمغمات الريف حول مواقد السمر |
إذا ما هزت الأنسام مهد السنبل الغافي |
و سال أنين مجداف |
كأن الزورق الأسيان منه يسيل في حلم |
عصرت يديّ من ألم |
فأين زوارق العشاق من سيارة تعدو |
ببنت هوى ؟ و أين موائد الخمار من سهل يمد موائد القمر ؟ |
على أمواتك المتناثرين بكل منحدر |
سلام جال فيه الدمع و الآهات و الوجد |
على المتبدلات لحودهم و الغاديات قبورهم طرقا |
و طيب رقادهم أرقا |
يحنّ إلى النشور و يحسب العجلات في الدرب |
و يرقب موعد الربّ |