حافظ إبراهيم ..
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
نَعوا إلى الشِعرِ حُراً كان يرعاهُ | ومَنْ يَشُقُّ على الأحرارِ مَنعاهُ |
أخنى الزَّمانُ على نادٍ " زها " زَمناً | بحافِظٍ واكتسى بالحُزنِ مغناه |
واستُدْرجَ الكوكَبُ الوضاءُ عن أُفُقٍ | عالي السَّنا يُحْسِرُ الأبصارَ مَرقاه |
أعْززْ بأنَّا افتقَدناهُ فأعوزنا | وجهٌ طليقٌ وطَبعٌ خفَّ مجراه |
وأنَّ ذاكَ الخفيفَ الروحِ يُوحشُه | بيتٌ ثقيلٌ على الأحياءِ مَثواه |
ضيفٌ على رِمَمٍ شتَّى طبائعُها | ما كانَ يجمعُها حالٌ وإياه |
أنَّ الذي هزَّ كلَّ الناس مَحضَرُهُ | لم يبقَ في الناس منه غيرُ ذكراه |
نأت رعايَتُنا عنه وفارقَنا | فِراقَ مُحتَشمٍ فلْيَرْعَهُ الله |
حوى التُرابُ لِساناً كُلُّهُ مُلَحٌ | ما كلُّ مُحتَرِفٍ للشِّرِ يُعطاه |
للأريحيَّةِ مَنْشاهُ ومَصْدرُهُ | وللشَّجاوةِ والإيناسِ حَدّاه |
جمُّ البَدائهِ سََهْل القولِ ريِّضُه | وطالما أعوزَ المِنطيقَ إبداه |
جَلا القِراعُ الشبا منهُ ولطفَّهُ | طولُ التَّجارِبِ في الدُّنيا ونقَّاه |
تخيَّر الكَلِمَ العالي فَسلَّطهُ | على القوافي فحَّلاها وحلاّه |
ومَدَّها ببنَتِ الفِكرِ مُرسَلةً | تَرَسُّلَ السَّيلِ أدناهُ كأقصاه |
من كلِّ مَعنىً لطيفٍ زاد رونَقَهُ | إبداعُ " حافِظَ " فيهِ فهو تيَّاه |
فلو يُطيق القريضُ النُطقَ قابلةُ | بالشكرِ عن حُسن ما أسدى فأطراه |
عرائسٌ من بنات الفكر حاملةٌ | مِن حافظٍ أثَراً حُلواً كسِيماه |
وما الشُعورُ خيالُ المرءِ يَنْظِمهُ | لكنَّهُ قِطِعِاتٌ مِن سجاياه |
أخو الحماسِ رقيقاً في مقاطعهِ | تكادُ تُلْمسُ نِيرانٌ وأمواه |
وذو القوافي لِطافاً في تَسَلسُلها | ما شانَها عنَتٌ يوماً وإكراه |
وابنُ السِنينَ نَقيَّاتٍ صحائفُها | أُُولاه فائضةٌ حُسناً وأُخراه |
فانْ يكُنْ خُضِدت بالموتِ شوكتُهُ | أو نالَ وقعُ البِلى منهُ فعرّاه |
فما تزالُ مَدى الأيامِ تُؤنسُنا | نظائرٌ مِن قوافيهِ وأشباه |
شِعرٌ تُحِسُّ كأنَّ النفسَ تَعشَقُهُ | أو أنَّها اجتُذِبَتْ بالسِحر جرّاه |
زانَتْ مواقِفَهُ جُنديَّةٌ كُسيَت | من الرزانهِ ما لمْ تُكْس لولاه |
مشى بمصرَ فلم يَعثُر بها ورمى | مُحتلَّ مِصرَ فلم يُخطِئْهُ مَرماه |
رِيعَ القريضُ بفذٍّ كانَ يملؤهُ | مِن الجميلينِ مَبناهُ ومَعناه |
يُعطي لكلِّ مَقامٍ حقَّهُ ويَرى | حقّاً لسامعهِ لابُدَّ يَرعاه |
قد يُوسِعُ الأمرَ تفصيلاً يُحتَّمُه | حالٌ وقد يَكتفي عنهُ بفَحواه |
وقد يجيئُ بما لم يَجْرِ في خَلَدٍ | وقد يقولُ الذي لم تهوَ إلاّه |
فمٌ من الذهب الابريزِ مَنطِقُهُ | جاءتْ تُعزّي به الأشعارَ أفواه |
اليومَ يبكيهِ دامي القلبِ طارَحَهُ | بِدامياتِ قوافيهِ فواساه |
وضيِّقُ الصدرِ بالأيام غالطَهُ | عنِ الحياةِ وما فيها فعزّاه |
حَسْبُ الزمانِ وحِسبُ الناسِ مَنقصةً | أن طالَ من حافظٍ في الشِعر شكْواه |
ما للزمانِ ونفسٍ ريعَ طائُرها | ألمْ تكنْ في غِنىً عنها رزاياه |
ضَحيَّةَ الموتِ هل تهوى مَعاودَةً | لِعالمٍ كنتَ قَبلاً مِن ضَحاياه |
يا ابنَ الكِنانهِ والأيامُ جائزةٌ | والدهرُ مُغْرَمةٌ بالحُرِّ بَلواه |
لُقِّيتَ مِن نَكَدِ الدُّنيا ومحنتها | ما كنتَ لولا إباءٌ فيكَ تُكفاه |
ما لذَّةُ العيشِ جَهلُ العَيشِ مَبدؤهُ | والهمُّ واسِطهُ ، والموتُ عُقباه |
يا ابنَ الكِنانهِ ماذا أنتَ مُشتَمِلٌ | عليه ممَّا سَطا مَوتٌ فغَطَّاه |
سِتّونِ عاماً أرتْكَ الناسَ كُنهَهَمُ | والدهرَ جوهرَهُ والعُمْرَ مَغزاه |
وبَصَّرتكَ بأطباع يَضيقُ بها | صدرُ الحليم وتأباه مَزاياه |
بَدا على نَفثَاتٍ منكَ خالدةٍ | عيشُ الأباة ونُعماهُ وغُمَّاه |
وخَبَّرتنا القوافي عن أخي جَلَدٍ | صُلبِ الإرادةِ يُعْيي الدهرَ مأتاه |
خاضَ الزمانَ وأبلاهُ مُمارسةً | لم يَخْفَ عنه خبيٌّ مِن ثناياه |
وعَنْ مصارَعةِ الدُّنيا على نَشَبٍ | الحَالُ تُوجبهُ والنفسُ تأباه |
وعن مواقفَ تُدمي القلبَ غُصَّتُها | لا المالُ يَدفعُ ذِكراها ولا الجاه |
وعن أذايا يّهدُّ النفسَ مَحمِلُها | ويَستثَيرُك جانيها ومَرآه |
إنَّا فَقدناهُ فقْدَ العيَنِ مُقلتها | أو فقْدَ ساعٍ إلى الهيجاءِ يُمناه |
ما انفَكَّ ذِكرُ الرَّدى يجري على فمه | وما أمرَّ الرَّدى ، بل ما أُحيلاه |
ومَنْ تُبَرِّحْ تَكاليفُ الحياةِ به | ويَلْمِسُ الرَّوْحَ في مَوتٍ تمنَّاه |
إنّي تعشَّقتُ مِن قَبلِ المُصابِ به | بيتاً له جاء قبلَ الموتِ يَنعاه: |
ودَّعتُهُ ودُموعُ العينِ فائضةٌ | والنَّفسُّ جياشةٌ والقَلب أواه |