يا كائناً بين أوعاثٍ وأوعارِ
مدة
قراءة القصيدة :
9 دقائق
.
يا كائناً بين أوعاثٍ وأوعارِ | من صَرْف دهرٍ على أبنائه ضارِي |
لعا لعاً لك من عَثْرٍ ألمَّ بنا | في سابحٍ منك طِرفٍ غير عثّار |
ما زال يسبق بالتقريب طالبَهُ | وفيه كنزان من شَدِّ وإحضار |
أعجبْ به فيك من شكوٍ ولا عَجَبٌ | من ريب دهرٍ ولا من صرف مقدار |
أنَّى امتُحِنت ببلوى لا يُشاكلها | ما خلتُها غير تعبيرٍ وإنذار |
وكلّ عبدٍ أراد الله عصمتهُ | لم يُخْله الله من وعظٍ وإذكار |
أما وبُرْئِك كلّ البرء من وصَبٍ | أضرَّ بالناس طراً كلّ إضرار |
لئن منحتُك إشفاقاً تكنَّفهُ | وُدّان من بين إعلان وإسرار |
إني لأنشر إشفاقي على رجلٍ | فَرْدٍ له خطر وافٍ بأخطارِ |
وكنت والدهر غدار بصاحبه | لا سيما إن رآه غير غدارِ |
أخشى عليك اضطرامَ الدهر لاعِللاً | تُخشَى على كل كابي الزند عُوّارِ |
ما أنت والبردُ يا من كل جارحة ٍ | من جسمه ذات نيران وأنوار |
جارتْ عليلتُك المنهاجَ سارية ً | وهل يَضِل على بدر الدجى ساري |
ما مثلها ياشهاب الأرضِ غاشية ٌ | معهودة من غواشي تلكمُ الدار |
برد أطاف بنار منك موقدة ٍ | ليست تبوخ ولا تُذكى بمسعار |
ما كان يجمع جلّ الله بينكما | إلا المؤلفُ بين الثلج والنار |
أبشِرْ فإنك طودُ الله أسسهُ | وشاد منه بناء غير منهار |
فأمنْ فإن ذكاءً أنت ضامنهُ | قِرنٌ لشكرِك جَلْد غير خوار |
ستستجيش عليه أو تُطحطحهُ | في فِيقة ٍ بحريق منه سوّار |
وإنما هو برد والسلام لهُ | شَفْع وفيك طباع زَنْده واري |
والله يأسر قوماً ثم يُطلقهم | والدهر ينَسخ أطواراً بأطوار |
وحسبك العُرف من دِرعٍ ومن تُرُسٍ | وحسبك الله من حصن ومن جار |
كأنني بك في سربال عافية ٍ | والحال حالان من نقض وإمرار |
تجري فتسبق من يجري إلى كرمٍ | عفواً وأجدِرْ بسبقٍ بعد مضمار |
وأنت صاحٍ من الأسقام منتقِبٌ | ديباجة ً ذات إشراق وإسفار |
نشوان من أريحيات الندى ثِملٌ | لا من عصارة كَرْم بنت أعصار |
مُطعّمٌ طيباتِ العيش تأكلها | والصوم لاشك متبوع بإفطار |
عُوّادك الشعراء الصِّيد قد وفدوا | إلى عطاياك من بدو وأمصارِ |
عَقْرَى لتأسوهُم كَسْرَى لتجبرَهم | يهوُون كالطير تهوي نحو أوكار |
كاروا العمائم واقلولَوا على شُعَبٍ | وأقبلوا بين أكوارٍ وأكوار |
جابتْ سهولاً وأوعاراً ركائبهم | كيما يحلّوا سهولاً بعد أوعارِ |
في كل هاجرة ٍ شهباءَ حامية ٍ | وكل داجية دهماءَ كالقارِ |
فخيَّموا منك في سهلٍ مَباءتُهُ | وأوسعوا بك طراً بعد إقتار |
ولو قدرتَ من اللين اللطيف بهم | أحللتَهم بين أجفان وأشفار |
فكم ضيوفِ ضيوفٍ في رحالهمُ | وكم هنا لك من زوار زوار |
تُطوَى لنا الأرض إن أمَّتك نِيّتُنا | وإن لقيناك زيدت نشرَ أقطار |
طيٌ ونشر لشوق لا كفاء له | وطلعة ٌ منك فيها طي إعسار |
وحُقَّ أن تُنْشَر الدنيا لذي أملٍ | لاقال ياخيرَ مُمتارٍ لممتارٍ |
كما يحق بأن تطوى لذي سفرٍ | نَواك يا خير مُزدار لمزدار |
لنا فوائدُ شتّى منك نافعة | عُرف لعافٍ وعرفان لِنظّار |
ما انفكّ آتوك من مالٍ تجود به | ومن إضاءة آراءٍ وأفكار |
آراؤك البيض تهديهم وتشفَعها | آلاؤك الصُّفر ما الأيدي بأصفار |
فالناس تحت سماءٍ منك مشمِسة ٌ | والناس تحت سماءٍ منك مِدْرار |
أصحت وصابتْ ففيها كل منفعة ٍ | وربما أصعقت يوماً لأشرار |
وليس يصلح لاستصلاح مملكة | غير امرىء ٍ نافع بالحق ضرّار |
ما ليم قطّ على استئثاره أحدٌ | إلا وجدناك معذولاً لإيثارِ |
تعطي الجزيل وما أكبرتَ قيمتَهُ | وأيسرُ الشكر تلقاهُ بإكبارِ |
شهدتُ أنك سَلسال كماء حَيّا | وسائرُ الناس صلصال كفخارِ |
أقسمتُ بالفعلاتِ الغُرّ تفعلها | في الناس أنك من غَرّاء مِذْكارِ |
لئن سبقتَ إليَّ الناس كلهمُ | لقد سبقت إلى شكري وأشعاري |
أبكرتَ فاصطدتني والقومُ في سنة ٍ | وصاحبُ الصيدِ قِدْماً كلُّ مبْكار |
أنت الذي صان لي عرضي ومسألتي | عن كل كلبٍ على الأحرار هَرّار |
ولن يُثوِّب شعراً كالعليم به | ولن يقوِّم ثوباً مثلُ سمسار |
أمطيتَني البِشرَ حُملاناً وأقفرني | قومٌ وكم بين حملان وإقفار |
كم سهلة ٍ فيك لاتُكدِي مَحافرها | وصخرة ٍ منك تنبي كلّ منقار |
يا خائفاً بدآتٍ منه مشرِفة ً | على عوائدِ سيْب منه ثرثار |
ثِقْ بالعوائد منهُ إنه رجل | كالسيل يحفِر تياراً بتيار |
لا تَخش من بدئه قَطْعاً لعودته | فإن إقدامه إقدام كرّار |
حاشاه أن يردع الإجزالُ كَرّتهُ | أو أن يقدّم إغزاراً لإنزار |
بل تستخف بما أعطاك قبضتهُ | حتى يرى ألف قنطار كدينار |
وحق من لا يفي شيءٌ بهمته | أن يستقل لعافٍ ألفَ قنطار |
خِرْقٌ يحاجز بالإجبار عاذلهُ | ولا يحاجز ممتاحاً بإجبار |
ما عامل الدهرَ في إقباله أحدٌ | إلا اشترى منه إقبالاً بإدبارِ |
بني ثوابة َ لا زالتْ منازلكم | تُلفَى مثابة مداحٍ وأشعار |
أغراضَ منتَزعٍ أكْلاء مرتَبعٍ | مَهْناة َ منتجعٍ غاياتِ أسفار |
ما زلتمُ تمنحون العُرفَ جاحدَهُ | حتى أقرّ به من بعد إنكار |
وفي الرقاب وُسومٌ من صنائعكم | إن أنكرتْها رجال بعد إقرار |
تستعبدون بها الأحرار دهركُمُ | فكم عبيدٍ لكم في الناس أحرار |
لكنّ من عَبَّد الأحرار عبدهم | عن غير عمدٍ بحكم للعلى جاري |
يريد إعتاق ملهوفٍ فتُلزِمهُ | نُعماهُ رقّاً بلا إثمٍ ولا عارِ |
لكم علينا امتنان لا امتنان به | وهل تَمنَّ سماوات بأمطارِ |
فكل حرٍّ بنعماكم وصمتكُمُ | من مَنِّكم مكتسٍ من مَنِّكم عاري |
وكيف ينوي اعتباد الحر معتقِهِ | في كل بؤس وإعسار بإيسارِ |
وما اعتبادكُمُ حراً بمعتمدٍ | أنّى ونياتُكم نيات أخيار |
وكم منحتم وكم ألقيتُمُ عِذراً | بعد اللُّهَى لا لتقصير وإقصار |
أريتمونا عياناً كل مكرمة ٍ | كانت قديماً لدينا رَجْم أخبار |
تخادَعون عن الدنيا وزِبْرجها | فتُخدَعون وما أنتم بأغمار |
وتفعلون جميلاً في مساترة ٍ | كأنّ معروفكم إيداع أسرار |
ما سار مدحكُمُ في الأرض منشمِراً | إلا بعُرفٍ لكم في الناس سيار |
يا رُبّ أبواعِ أقوام ذوي كرمٍ | قِيست فيما عُدلت منكم بأشبار |
طُلتم بمجدكُمُ الأمجادَ كلهم | لا تعدموا طول أقدارٍ وأعمار |
إن كان أورقَ أقوامٌ فإنكُمُ | مفضّلون بتنوير وإثمارِ |
أظللتُمُ بشكيرٍ نبتُهُ ثمر | للمجتبين وحييتم بنُوار |
كأنما الناس في الدنيا بظلكُمُ | قد خيموا بين جنات وأنهارِ |
أيامُنا غُدواتٌ كلها بكمُ | خلالهن ليالٍ مثل أسحارِ |
لكم خلائق لو تحظى السماءُ بها | لما ألاحتْ نجوماً غير أقمارِ |
لا ترهبوا الدهر إن العرف ناهضُة ُ | لكم على الدهر منها خير أنصارِ |
أنتم بها منه في حِرْزٍ وواقية ٍ | إن صال يوماً بأنيابٍ وأظفار |
لولا عمارتكم للملك دولتَهُ | لأصبح الملك في بيداءَ مِقفار |
كتّاب ملك إذا شئتم مقاتَلة ً | يستنفر الملك منكم خير أنفار |
تقاتلون بآراءٍ مسددة ٍ | لا بل بأسلحة ٍ لا بل بأقدار |
أقلامكم كرماح الخط مشرَعة ٌ | طولاً كطولٍ وآثاراً كآثار |
آراء صدقٍ أتى التوفيق خِيرتَها | في موقف بين إيراد وإصدار |
يا رُبّ ثِقلٍ حملتم عن خلائقنا | لم تعدلوه بآثام وأوزار |
لا كالأُلى حملوا ما لا يفون به | وأُوقِروا من أثام أي إيقار |
رآكم الله والسلطان حزبهما | فاستعمر الملك منكم خير عمار |
لو لم تكونوا دروعاً للدروع بها | لأعورتْ كلُّ درعٍ أي إعوار |
أو لم تكونوا سهاماً للسهام بها | إذاً لطاشتْ مرامي كل أُسوار |
أو لم تكونوا رماحاً للرماح بها | لم يجعل الله فيها نقض أوتار |
أو لم تكونوا سيوفاً للسيوف بها | لأخفرتْ حامليها أيّ إخفار |
رعيتُم لِقحات الفيء رِعيتها | فأعقبتْ بعد إنزار بإغزار |
حَفّلتُمُ ومريتم كل ناحية ٍ | قد حاردتْ ثم ثَلَّثتم بإدرار |
فأترعتْ عفواتُ الدَّرّ مِحلبها | وطال ما لم تصادف غير أغبار |
تُلفى العِلاب إذا أدررتُمُ دِرراً | ملأْن بين قرارات وأصبار |
يا رُبّ أمرٍ غدا حُضّاره غيباً | وأنتُمُ غيب فيه كحُضار |
كم قد سموتم بأيديكم إلى شرفٍ | لم يسمُ قطّ له قوم بأبصار |
لاتجعلوا من حديث الناس موعظة ً | ولا يزلْ عُرفكم أسمارَ سُمار |
ومستخفٍّ بقدر الشعر قلت له | لن ينفُق العطر إلا عند معطار |
لاتُصغِر الشعر إن أصغرت قائلهُ | فإنه غير محقوقٍ بإصغار |
ولا يغرّنْك تصريف الهُنِّي له | فتستخفّ بشأن منه كُبار |
أما ترى المسك بَيْناه على حجرٍ | يُذلّه كل ذلٍّ فِهْر عَطّار |
إذ بَلَّغتهُ صروف الدهر غايتهُ | فاحتلّ منزلة ً من رأس جبار |
وقد عرفتُ وغيري حق معرفة | للشعر أنصار صدقٍ أيَّ أنصار |
يكفيك أنَّ أبا العباس ينصرهُ | وإنما الحكمُ فيه حكمُ معيار |
فاعدِل بلومك عني إنني رجلٌ | أجررتُ في الشعر حبلي أيَّ إجرار |
في الشعر أشياءٌ يرتاح الكريم لها | مثل اهتزاز قويم المتن خطاّر |
أبني البديع وأهديه إلى ملك | يبني الرفيع وما يبني بأحجار |
أضحت له مِنح تحيا بها مِدَحٌ | عُونٌ بعونٍ وأبكار بأبكار |
يكسي المديح ولم يُعور مجرّدهُ | وكعبة الله لا تكسي لإعوار |
ما في مجرد بيت الله مثْلبة ٌ | كلاّ وإن كان مستوراً بأستارِ |
فرد البلاغة لا يخلو مخاطِبُهُ | من سحر يافعة لا سحر سحار |
يزداد في القول إنجازاً ومَشربُهُ | محضُ العذوبة لم يَمْلَح لإبحار |
لا يعرف الناس إقلالَ العييِّ لهُ | حاشاه ذاك ولا إكثار مِهْذار |
تلقى به في مقامات الحجى بطلاً | على كلام سواه غير مغوار |
مجانب كل تمويهٍ لبيِّنة ٍ | محارب كل تعذير لاعذار |
رأيت مدحك كالإبصار بعد عمى ً | إذ غيره كالعمى من بعد إبصار |
إن القريض الذي يخزَى بحائكه | ليَكتسي بك فخراً غير أطمار |
كالمسك يفخر منسوباً إلى ملك | وإن تواضع منسوباً إلى القار |
يزري على الشعر أقوامٌ بحاكته | وما عليه إذا أُلبستَهُ زاري |