سلوت عن الدهر الذي كان معجبا
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
سَلَوْتُ عَنِ الدّهرِ الذي كان مُعجِباً، | وَمثلُ الذي قد كان من دَهرِنا يُسْلي |
وَأيْقَنْتُ أنّي لا مَحَالَةَ مَيّتٌ، | فَمُتّبِعٌ آثَارَ مَنْ قَدْ خَلا قَبْلي |
وَإنّي الذِي لا بُدّ أنْ سَيُصِيبُهُ | حِمَامُ المَنايا مِنْ وَفَاةٍ وَمن قَتْلِ |
فَما أنَا بالباقي، ولا الدّهرُ، فَاعلَمي | بِرَاضٍ بما قَدْ كانَ أذهبَ من عقلي |
وَلا مُنصِفي يَوْماً، فأُدْرِكَ عِنْدَهُ | مَظالَمهُ عِندِي، وَلا تارِكاً أكْلي |
وَأينَ أخِلاَئي الّذِينَ عَهدْتُهُمْ، | وَكُلُّهُمُ قَد كان في غِبطَةٍ مِثْلي |
دَعَتهُمْ مَقادِيرٌ، فأصْبَحتُ بَعدهمْ | بَقِيّةَ دَهْرٍ لَيسَ يُسبَقُ بالذَّحلِ |
بَلَوْتُ مِنَ الدّهرِ الذي فيهِ وَاعِظٌ، | وَجارَيتُ بالنُّعمَى وَطالَبتُ بالتَّبْلِ |
وَجُرّبْتُ عِندَ المُضْلِعاتِ، فلمْ أكنْ | ضَرِيعَ زَمَانٍ، لا أُمِرُّ وَلا أُحْلي |
وَبَيْدَاءَ تَغْتَالُ المَطيَّ قَطَعْتُها | برَكّابِ هَوْلٍ لَيسَ بالعاجزِ الوَغلِ |
إذا الأرْضُ سَدّتها الهَواجرُ وارْتدَتْ | مُلاءَ سَمُومٍ لمْ يُسَدَّينَ بالغَزْلِ |
وَكانَ الّذي يَبْدُو لَنا مِنْ سَرَابِها | فُضُولُ سُيولِ البحرِ من مائه الضَّحلِ |
وَيَدْعُو القَطا فيها القَطا، فيُجيبُهُ | تَوَائِمُ أطْفَالٍ منَ السّبسبِ المَحل |
دَوَارِجُ أخْلَفْنَ الشّكِيرَ، كأنّما | جَرَى في مآقيها مَرَاوِدُ منْ كُحْلِ |
يُسَقِّينَ بِالمَوْماةِ زُغْباً نَوَاهِضاً، | بَقَايَا نِطافٍ في حَوَاصِلِهَا تَغْلي |
تَمُجّ أداوَي في أداوَى بها استَقَتْ، | كما استفرَغَ الساقي من السَّجلِ بالسجلِ |
وَقَد أقطَعُ الخَرْقَ البَعيدَ نِياطُهُ، | بمائرَةِ الضَّبْعَينِ وَجناءَ كالهِقْلِ |
تَزَيّدُ في فَضْلِ الزِّمَامِ، كَأنّهَا | تُحاذِرُ وَقْعاً مِنْ زَنابيرَ أوْ نَحْلِ |
كَأنّ يَدَيْها في مَرَاتِبِ سُلّمٍ، | إذا غاوَلتْ أوْبَ الذّرَاعينِ بالرِّجْلِ |
تأوّهُ مِنْ طُولِ الكَلالِ وَتَشتَكي، | تأوُّهَ مَفْجُوعٍ بثُكلٍ على ثُكْلِ |
إلَيْكَ أمِيرَ المُؤمِنينَ أنَخْتُهَا، | إلى خَيرِ مَنْ حُلّتْ لهُ عُقَدُ الرّحلِ |
إلى خَيرِهمْ فيهمْ قَديماً وَحَادِثاً، | مَعَ الحِلمِ والإيمانِ وَالنّائلِ الجَزْلِ |
وَرِثتَ أباكَ المُلكَ تَجرِي بسَمتِهِ، | كذلك خُوطُ النّبعِ يَنبُتُ في الأصْلِ |
كَداوُدَ إذْ ولَّى سُلَيْمَانَ بَعْدَهُ | خِلافَتَهُ نِحْلاً من الله ذي الفَضْلِ |
يَسُوسُ من الحِلمِ الذي كانَ رَاجِحاً | بأجْبالِ سَلمَى من وَفاءٍ وَمن عَدلِ |
هُوَ القَمَرُ البَدْرُ الذي يُهتَدَى بِهِ | إذا ما ذُوُو الأضْغانِ جارُوا عن السُّبلِ |
أغَرَّ تعرَى نُوراً لبَهْجَةِ مُلْكِهِ، | عَفُوّاً طَلُوباً، في أنَاةٍ وَفي رِسْلِ |
يَفِيضُ السِّجالَ النّاقِعاتِ من النّدَى، | كما فاضَ ذو مَوْجٍ يقمِّصُ بالجَفلِ |
وكمْ مِنْ أُناسٍ قَدْ أصَبْتَ بنِعمةٍ، | وَمنْ مُثقَلٍ خَفّفتَ عنه منَ الثِّقْلِ |
وَمِنْ أمْرِ حَزْمٍ قَدْ وَليتَ نَجِيَّهُ | برَأيٍ جَميعٍ مُستَمِرٍ قُوَى الحَبْلِ |
قَضَيْتَ قَضَاءً في الخِلافَةِ ثَابِتاً | مُبِيناً، فقد أسمَعتَ مَن كان ذا عَقلِ |
فمَنْ ذا الذي يَرْجو الخِلافةَ منهُمُ، | وَقَدْ قُمتَ فيهمْ بالبَيانِ وَبالفَصْلِ |
وَبَيّنْتَ أنْ لا حَقّ فِيها لخاذِلٍ، | تَرَبّصَ في شَكٍّ، وَأشفَقَ من مَثلِ |
وَلا لامرِىءٍ آتَى المُضِلّينَ بَيْعَةً، | رَأى الحرْبَ أبدتْ عن نوَاجذها العُصْلِ |
وَمَدّ يَداً مِنْهُ لِبَيْعَةِ خَاسِرٍ، | وَمال المُكْسِدُ المَغبونُ كالرّابحِ المغلي |
وَعانَدَ لمّا أنْ رَأى الحَرْبَ شَمّرَتْ، | عِنادَ الخَصيّ الجَوْنِ صَدّ عن الفحلِ |
فَما بالُ أقوَامٍ بَدا الغِشُّ منِهُمُ، | وَهُمْ كُشُفٌ عندَ الشّدائدِ وَالأزْل |
يُداوُونَ مِنْ قَرْحٍ أدانِيهِ قَد عَتَا | على الدّاءِ لمْ تُدْركْ أقاصِيهِ بالفُتلِ |
وَقد كانَ فِيما قَد تَلَوْا من حديِثهمْ | شِفاءٌ، وكانَ الحِلمُ يَشفي من الجَهلِ |
وَإلاّ، فَإنّ المَشْرَفِيّةَ حَدُّهَا | دَوَاءٌ لهُمْ غَيرَ الدّبيبِ وَلا الخَتْلِ |
أوِ النّفيُ حتى عَرْضُ أرْضٍ وَطولُها | عَلَيهمْ كَبَيتِ القَينِ أُغلِقَ بالقَفلِ |
وَقد خَذَلوا مَرْوَانَ في الحَرْبِ وَابنَه | أبَاكَ وَأدْلَوْا فيهما معَ مَنْ يُدْلي |
وَكانَا إذا مَا كان يَوْمُ عَظِيمَةٍ، | حَمولَينِ للأثقالِ في الأمرِ ذي البَزْلِ |
فَصَلّى على قَبْرَيْهِمَا الله، إنّمَا | خَلائِقُهُ مِنْهَا على سُنّةِ الرّسْلِ |
فَفُزْتَ بما فَازَا بِهِ مِنْ خِلافَةٍ، | وَزِدتَ على مَن كانَ قَبلَك بالحَصْلِ |
بعافِيَةٍ كَانَتْ مِنَ الله جَلّلَتْ | مَشارِقَها أمْناً إلى مَغْرِبِ الأُمْلِ |
وَكُنتَ المُصَفّى من قرَيشٍ وَلمْ يكُنْ | لوَطْئِكَ فيهمْ زَيْغُ كَعْبٍ وَلا نَعلِ |
أشارُوا بهَا في الأمْرِ غَيرَكَ مِنْهُمُ، | وَوَلاّكها ذو العرْشِ نَحلاً من النُّحلِ |
حَبَاكَ بهَا الله الّذِي هُوَ سَاقَهَا | إلَيكَ فقَدْ أبْلاكَ أفْضَلَ ما يُبْلي |
وَسِيقتْ إلى مَن كانَ في الحرْبِ أهلَها | إلى وَاضِحٍ بادٍ مَعالمُهُ، سَهْلِ |
وَمَا أصْلَتُوا فهيها بسَيْفٍ عَلمْتُهُ، | وَلا بِسِلاحٍ مِنْ رِمَاحٍ وَلا نَبْلِ |
فَنُصْحي لكُمْ قادَ الهَوَى من بلادِهِ | إلى مَنبِتِ الزّيتونِ من مَنبِتِ النّخْلِ |