أرشيف الشعر العربي

رحلت وأودعت الفؤاد لواحظا

رحلت  وأودعت الفؤاد لواحظا

مدة قراءة القصيدة : 4 دقائق .
رَحَلَتْ ، وأَوْدَعَتِ الفُؤَادَ لَوَاحِظاً تُوهِي القُوَى وإِشارةً بِبَنَانِ
خَوْدٌ كَبَدْرٍ فَوْقَ فَرْعِ أَرَاكَةٍ يَهْتَزُّ مَثْنِيَّا عَلَى كُثْبَانِ
لَيْمَياءُ تَبْسِمُ عَنْ شَتِيتٍ واضِحٍ كالأَرْي يَرْوِي غُلَّةَ الصَّدْيانِ
فَتَنَتْكَ بالدَّلِّ الرَّخِيمِ ، ولم تَزَلْ كَلِفاً بكُلِّ رَخِيمةٍ مِفْتَانِ
وَشَجَتْكَ بالتَّفرِيق ظُغْنُ فَريقِهَا فَظَعَنْتَ ، إِلاَّ الشَّجْوَ ، في الأَظعَانِ
ظَلَّت دُمُوعُكَ في طُلُولٍ بُدِّلَتْ بضِيَائِها ظُلْمَاً إِلى ظَلْمَانِ
إِنَّ الغَرَائِرَ يَوْمَ جَرْعَاءِ الحِمىٍ أَغْرَيْنَ دَمْعَ العَيْنِ بالهَمَلاَنِ
غادَرْنَ عَقلَ أَبِي عِقَالٍ ذاهِباً وَوَقَفنَ مُهْجَتَهُ عَلَى الأَشجَانِ
لم يَغْنَ في تِلكَ المَغَانِي بَعْدَهُمْ بَلْ ما غَنَاءُ مَعَاهِدٍ ومَغَانِ
يا دارُ جادَ رُبَاك جَوْدٌ مُسْبِلٌ وَغَدَتْ تَسُحُّ عَلَيْكِ غادِيتَانِ
فَدَعِ ادِّكارَك مَنْ نَأَى ، وانعَمْ فَقَدْ دامَتْ لَنَا اللَّذَّاتُ في دَامَانِ
والمَرْج ُ مَمْرُوجُ العِرَاصِ مُفَوَّفٌ تَزهَى خُزَامَاهُ عَلى الحَوْذَانِ
والرَّقَّةُ البَيْضَاءُ كالْخَوْدِ الَّتي تَختَالُ بَيْنَ نَوَاعِمٍ أَقْرَانِ
مِن أَبْيَضِ يَقَقٍ ، وأَصْفَرَ فاقِعٍ ، فِي أَخضَرٍ بَهِجٍ ، وأَحْمَرَ قَانِ
ضَحِك البَهَارُ بأَرْضِها ، وتَشَقَّقَتَ فِيهَا عُيُونُ شَقَائِقِ النُّعْمَان
وتَنَفَّسَتْ أَنْفَاسُ كُلِّ قَرَارَةٍ وَتَغَنَّتِ الأَطيَارُ فِي الأَفَنَانَ
فَكَأَنَّما قَطَرَ السَّحَابُ عَلى الثَّرَى عِطْراً فأَذَكَاهُ ذَكَاءَ بَيَانِ
وزَكَتْ مَعَالِمُ دَيْرِزَكَّى بَعْدَ أَن وَسَمَت يَدُ الوَسْمِيِّ كُلَّ مَكان
بِعَرَائِسٍ خُضْرِ الغَلاَئلِ تَرْتَمِي بِنَواظِرٍ نُجْلٍ من العِقْيَانِ
وجُفُونِ كافُورٍ أَعادَ بِهَا الصَّبَا ضَعَفاً ، فَهُنَّ مَرَائضُ الأَجْفَانِ
فَإِذا العُيُونُ تأَمَّنَتْ أَشخَاصُها فكأَنَّهُنَّ إِلى العُيُونِ رَوَانِ
يَسْعَى النَّقَا ما بَيْنَهُنَّ رَسَائلاً فَيَمِلْنَ بالتَّقبِيلِ والرَّشَفَانِ
فَكَأَنَّ مَثْنَاهُنَّ عِندَ هُبُوبها رَأْدَ الضُّحى سَكَنَانِ مُعْتَنِقانِ
وَكَأَنَّمَا تِلكَ الٌقُدُودُ أَوَانِسٌ كالعِينِ لَمْ يأَنَسْنَ بالإِنْسَانِ
وتَفَجَّرَتْ أَنهَارُها بِمِياهِهَا مَوْصُولَةً بِفَوَاهِقِ الغُدْرَانِ
مِثلَ المَرَايَا في نَمَارِقَ سُنْدُسٍ خُضرٍ يَرُوقُ العَيْنَ باللَّمَعَانِ
أَو فِضَّةٍ فاضَتْ بأَرْضِ زُمُرَّدٍ أَو مَاء دُرٍّ دَارَ في مَرْجَانِ
فكأَنَّ دَيْناً للسَّماء عَلَى الثَّرَى سَلَفاً قَديماَ حَلَّ في نَيْسَانِ
ظَلَّ السَّحَابُ سَفِيرَها وسَفِيرهُ ويَقُودُها عَيْنَانِ يَنسجِمَانِ
مَنَحَتْهُ وَهْيَ شَجِيَّةٌ بِبُكائِهَا وَوَفَى بِضَحْكِ المُوثَقِ الْجَذْلانِ
مُتَبَسِّمٌ عَنْ لُؤْلُؤٍ مُتَلأْلِىءٍ ونَوَاعِمٍ مِثلِ الْبُدُورِ حِسَانِ
شُغِفَ السَّحَابُ بِهَا فَرَوَّى زَهْرَها رَيْقاً فَرَاحَ كَرَائحٍ نَشوَانِ
وحَبَا عَدائِرَهَا بدُرٍّ سَحُّهُ وفَرَائدٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ ومَثَانِ
فَتَتَوَّجَتْ بِجِنَانِها ، وَزَهَتْ عَلَى تِلكَ الرِّياضِ بِبَهْجَةِ التِّيجانِ
وإِذا بَدَتْ شَمْسُ النَّهَارِ مُضِيئَةً فَلَنَا بِهَا وبِحُسْنِها شَمْسَانِ
وإِذا الهِلاَلُ أَغبَّنا جُنْحَ الدُّجى فَبِنُورِهِ يَتَنَوَّرُ الأَفُقَانِ
ولَرُبَّ يَوْمٍ قَدْ فَتَكْتُ بقُمْرِهِ وقَطَعْتُهُ في ظِلِّ لَهْوٍ دَانِ
وطَرَفتُ فِيهِ مُشَمِّراً في شِرَّتِي بطَرَائِفِ الَّلذَّاتِ طَرْفَ زَمَاني
إِنْ فَاخَرُوا كَثُرُوا وإِنْ بَذَلُوا اللُّهَى أَغْنَوْا ، وإِن نَطَقُوا فَحُسْنُ بَيَانِ
قَوْمِي الَّذِينَ إِذا المَنُونُ تَفَرَّستْ يَوْمَ الْوَغَى في أَوْجُهِ الفُرسَانِ
واسْوَدَّ وَجْهُ الشَّمسِ ، واحْمَرَّتْ ظُبَا بِيضِ الصِّفَاحِ ، وبلَّدَ الْبَطَلاَنِ
فالنِّقعُ لَيْلٌ ، والسُّيُوفُ كَوَاكِبٌ تَنْقَضُّ فَوْقَ جَمَاجِمِ الأَقرَانِ
نَحَرُوا الأَسِنةَ بالنُّحُورِ تَهَاوُناً بالْمَوْتِ بَلْ مَرَناً عَلَى المُرَّانِ
لا نَرْهَبُ الأَيَّامَ ، بَلْ مِنْ بَأْسِنَا يُخشَى الرَّدَى وحَوَادِثُ الأَزْمَانِ
رَاوَحْتُهُمْ راحاً كأَنَّ شُعاعَهَا وَوُجوهَهُمْ بَرْقَانِ يأْتَلِقَانِ
مِنْ كَفَّ رَيَّانِ الشَّبَابِ مُنَعَّمٍ يَسْبِي العُقُولَ بِطَرْفِهِ الْوَسْنَانِ
فَضَحَ البُدُورَ ضِيَاؤُهُ لمَّا بَدَا ثَمِلاً ، وأَخجَلَ مَائِلَ الأَغصَانِ
فَكَأَنَّهُ أَلِفٌ لِحُسْنِ قَوَامِهِ وكأَنَّ عِطْفَيْ صُدْغِهِ نُونَانِ
فَسَقَى بكَأْسِ مُدَامَةٍ ذَهَبِيَّةٍ ، وبطَرْفِهِ كأَسَانِ دَائرتانِ
فَكَأَنَّمَا بَهْرَامَ وَسْطَ نَدِيِّنا والزَّهْرَةَ الْبَيْضَاءَ مُقتَرِنَانِ
مَا زِلْتُ أَشرَبُهَا وأَلْثِمُ خَدَّهُ وَإِذا أَشَاءُ غِنَاءَهُ غَنَّاني
أَمَّا الفُؤَادُ فَقَدْ مَضَى لِسَبِيلهِ وبَقِيتُ رَهْناً في يَدِ الهِجْرَانِ
فَيَدُ الهَوَى تَهْوِيبِرُوحِي في الضَّنَى ويَدُ النَّوَى تَنْأَى بضَرٌجَنَانِي
والحُبُّ يُتْبِعُ شَفْوَةً بِسَعَادَةٍ كالدَّهْرِ يُعْقِبُ شِقْوَةً بِلَيَانِ

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (البحتري) .


ساهم - قرآن ٢