حصاد العام
مدة
قراءة المادة :
23 دقائق
.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، و{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61-62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار ولايته للأبرار وعداوته للكفار وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أرسله الله هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله وسلم عليه كلما اغتنمت الأعمار وحفظ الليل والنهار أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله الذي خلق الليالي والأيام، وعظمها بالذكر وخير الكلام، وعمرها بالصلاة والصيام، وزينها بالصدقة والقيام، وقسمها أياماً وأشهراً وأعوام، وجعلها عبرة للأنام، وخزائن لمن عمل صالحاً واستقام، ومهلة لمن تاب من الآثام، وأظهر فيها الإسلام، وأباد الظلام، وحطم الأصنام، فهي نعمة لمن اغتنمها، وحسرة وندامة لمن ضيعها، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ويا طالب الأجر شمِّر، فإن حياتنا مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة، ومحطات نتزود منها للدار الآخرة، وخزائن نضع فيها الأعمال، أقلها الثواني والدقائق وأكثرها الأعوام.
فكم من صاحب دقائق ثوابه ثواب الأعوام وعمله عمل الكرام، وكم من صاحب أعوام ثوابه ثواب الدقائق والثواني، وعمله عمل اللئام فاغتنم هذه المراحل قبل فوات الأوان، فإن كل مرحلة تقرّب من الآخرة وتبعد عن الدنيا وتقرّب إلى الموت وتُبعِد عن الحياة، وتقرّب إلى القبور وتُبعِد عن القصور وتقرِّبك من لقاء الله تعالى.
فإما أن تحب هذا اللقاء لأنك قدَّمت العمل الصالح فقدِمت عليه، ولأنك أرضيت الله قبل أن تلقاه ولأنك عملت بأوامره وتركت نواهيه ولأنك قمت بوظيفة الدنيا على الوجه المطلوب؛ فوجدت ثمار عملك عند لقاء ربك.
وفي الحديث: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» (رواه البخاري ومسلم)، ومن الناس من يكره لقاء الله لأنه قدَّم العمل السيء فقدِم عليه، ولأنه أرضى الناس بسخط الله فسخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ولأنه ترك أوامر الله ووقع في نواهيه وترك الوظيفة التي من أجلها خلق فكره لقاء الله وكره الله لقاءه وفي الحديث: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» (رواه البخاري ومسلم).
قال أبو حازم رحمه الله لسليمان بن عبد الملك وقد قال له كيف القدوم على الله تعالى يوم غد قال: "أما الطائع فيَقدِم على ربه كمسافر سافر عن أهله ثم عاد إليهم فهو فرح بهم وهم فرحون به وأما العاصي فيَقدِم على ربه كعبدٍ شارد عن سيده ثم يُعاد إليه فسيتقبله بالقيود والنكال والضرب والسجن.
قال: أين أجد هذا في كتاب الله تعالى قال في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ .
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13-14]".
عباد الله؛ إن من مراحل حياتنا التي قطعناها من سفرنا إلى الآخرة هذا العام الذي نحن في آخره ونوشك أن نودعه ويودعنا ولا يعود إلينا أبداً إلى يوم القيامة، فإنه ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ويقول يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة، وليس وداع هذا العام بالفرح الدنيوي الذي يتمثل في نيل شهادة قد تكون السبب في دخول النار، ولا في نيل علاوة دورية حلالها حساب وحرامها عقاب، ولا في نيل مرتبة دنيوية تدعو صاحبها إلى العُجب والكِبر، وتجرَّه إلى التسلُّط والظلم.
فليس من العقل أن يفرح مَن يومه يهدم شهره، ومن شهره يهدم عامه، ومن عامه يهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته لموته، وكيف يفرح والدنيا قد ارتحلت مدبِرة والآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، ولكننا نودِّع هذا العام بالاستفادة من الدروس التي كانت فيه، وهي دروس مثمرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وهي شمعات مضيئة تضيء للسالك طريقه إلى الله ولعلي أن أذكر ببعض هذه الدروس والفوائد من باب التذكير لا من باب الحصر فمنها.
1 - الإكثار من الثناء على الله بما هو له أهل؛ وذلك بحمده وشكره على ما أنعم به من مهلة العمر والاستزادة من العمل الصالح فإن خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشرهم من طال عمره وساء عمله قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله» (رواه الترمذي).
روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما أن رجلين من بلي قدِما على رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وكان إسلامهما جميعاً، فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأُذِن للذي توفي الآخِر منهما ثم خرج، فأُذِن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يُأذن لك بعد.
فأصبح طلحة يُحدِّث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: «من أي ذلك تعجبون؟»، فقالوا يا رسول الله: هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد ودخل هذا الآخِر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بعده سنة؟»، قالوا: بلى، قال: «وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟»، قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض» (رواه ابن ماجة).
وقد تأذّن الله بالمزيد لمن شكر فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم من الآية:7]، وتأذّن بالرضى عمن شكر فقال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر من الآية:7]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها أويشرب الشربة فيحمده عليها» (رواه مسلم، وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه).
2 - ومنها التوبة الصادقة النصوح التي تُظهر الإنابة لله والاستسلام له واتباع أحسن ما أنزل والإخلاص لله تعالى والطمع فيما عنده والثقة بوعده وما التوبة من الذنوب إلا لأن الإنسان محل للنقص وعرضة للإثم فهي لمداواة جرحه ولسد خلله ولجبر كسره ولا كمال نقصه ولتنوير قلبه ولثباته على الصراط المستقيم.
وقد فتح الله بابه للتائبين وجعل باب التوبة من أوسع الأبواب إذ عرضه مسيرة أربعين سنة يقول الله تعالى وهو يدعو العصاة إلى التوبة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمر من الآية:53].
ويقول: {وَإنّي لَغَفَّار لمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَملَ صَالحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه من الآية:82]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» (رواه مسلم وأحمد)، والله تعالى يفرح بتوبة عبده أشد فرحاً من الذي فقد طعامه وشرابه وراحلته فنام للموت ثم استيقظ فوجد الطعام والشراب والراحلة عند رأسه ففرح بذلك فرحاً شديداً حتى أخطأ من شدة الفرح إذ قال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» (رواه مسلم).
والتوبة لا تتحقق إلا بالإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على عدم العودة إليه مرة أخرى والإيمان الصادق والعمل الصالح والإخلاص لله وحده وأن تكون التوبة في وقتها وبالتوبة الصادقة يصلح الإنسان ماضيه بإبدال سيئاته حسنات، ويصلح حاضره بمضاعفة الأجر والحسنات ويُصلح مستقبله بحفظه في دينه ودنياه.
3 - ومنها الاستغفار الذي يعني الاعتذار من التقصير ويعني طلب ستر الذنوب والتجاوز عنها وعدم المؤاخذة عليها وهو خير ما تُختم به الأعمال فها هو المصلى يستغفر الله ثلاثاً بعد الانتهاء من صلاته وهاهو القائم لله معظم ليله يستغفر الله بعد قيامه وهو خير ما تختم به الأعمار يقول الله تعالى لرسوله وهو يخبره بدنو أجله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1].
فجعل الإستغفار هو آخر عمل بعمله في آخر حياته، وختم العام بالاستغفار مطلوب أخذاً من هدي القرآن الذي ختم التوحيد بالإستغفار، والإستقامة بالإستغفار، والحج بالإستغفار، والقيام بالإستغفار، وأعظم الإستغفار سيده وهو: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» (رواه البخاري).
ثم: «أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ثم: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (متفقٌ عليه).
قال أبو هريرة: "كلكم يغفر الله له إلا من أبى، قالوا من يأبى قال: من استغفر الله غفر له، ومن لم يستغفر فقد أبي".
وفي الحديث القدسي: «يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي»، وهو بمثابة التطهير من المعاصي والختم على الطاعات.
4 - ومنها الإتعاظ بسرعة انتهاءه فكأنه بدأ بالأمس، تمر أيامه كلمح البصر، وما كأنه إلا شهر وما كأن أشهره إلا أياماً وما كأن أيامه إلا ساعات وما كأن ساعاته إلا دقائق ولعل هذا التقارب من علامات الساعة.
يقول صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ» (رواه الترمذي).
وقد يكون هذا التقارب لعدم البركة في الوقت لكثرة المعاصي التي ضيعت الأوقات وعطلت الأعمار وقد يكون لغفلة الناس وانشغالهم بدنياهم وملذاتهم فضاعت أعمارهم وأعمالهم وتعطلت جوارهم وانقادوا وراء الأهواء والشهوات واستعبدهم الشيطان وقد ذم الله الذين يضيعون أوقاتهم فقال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، وقال: {وَيَوْم تَقُوم السَّاعَة يُقْسِم الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْر سَاعَة} [الروم من الآية:55].
ويقول صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (رواه البخاري)، ويقول: «لا تزولُ قدَمَا عبد يومَ القيامة، حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُره فيمَ أفناه؟ وعن عِلْمِهِ ما عمِل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟» (رواه الترمذي وصحّحه عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه).
ويقول أحد السلف: "أدركت أقواماً يحافظون على أوقاتهم أشد من محافظتكم على الدرهم والدينار"، فهلّا كانت دقائقنا عشرات وساعاتنا مئات وأيامنا ألوف وهلا عرفنا أهمية الوقت أقسم الله به وجعله حياة العبد وما مضى منه لا يعود ويسرع في الإنقضاء وأغلى من الذهب والفضة.
5- ومنها الإتعاظ بالآيات اليومية والشهرية والسنوية فاليومية كالليل والنهار والشمس ونحوها فالنهار يذكر بالعبث والليل يذكر بالموت، والنهار يذكر بالدنيا والعمل فيها والليل يذكر بالآخرة والجزاء فيها والشمس تذكر بنعمة الاستفادة من جميع الحواس وتذكر بالمعاش وتذكر بالإيناس وبالتفكر في آيات الله التي تملأ الكون وأما الشهرية فكالقمر الذي يبدأ في أول الشهر صغيراً ثم يزداد كل ليلة في كبره وارتفاعه حتى يكتمل الليلة الخامسة عشرة ثم يتناقص مرة أخرى حتى يعود كما بدأ ويختفي ليلتين في آخر الشهر وهكذا حياة الإنسان يبدأ صغيراً وينمو حتى إذا بلغ اشده أخذ يتناقص ويضعف فيبيض الشعر وينحني الظهر وتضعف القوة ويفقد الحياة في آخر العمر يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم من الآية:54].
وأما السنوية فالفصول الأربعة التي تذكر بالجنة وتذكر بالنار فالربيع والخريف يذكران بالجنة في اعتدال الجو وفي الخضرة والأزهار وفي الثمار والصيف والشتاء يذكران بالنار في شدة الحر والبرد ومن تأثر الأجسام فهلا استفدنا من هذه الآيات لنستثمر الدنيا ونسعد في الآخرة.
6- ومنها الإعتبار بالواقائع التي وقعت في هذا العام من المواليد والوفيات والشباب والهرم والصحة والسقم والغنى والفقر والفراغ والشغل والعز والذل والانتصار والهزيمة والهداية والضلالة.
فكم من مولود ولد واستقبل دنياه وكم من ميت فقدناه واستقبل أخراه، وكم من قوي أصابه الضعف وشاب أصابه الهرم، وكم من صحيح نزل به المرض ولازم الفراش، وكم من غني ذهب ماله وأصبح فقيراً يتكفف الناس، وكم من منحرِفٍ هداه الله، والواجب أن يغتنم الإنسان حياته قبل موته وشبابه قبل هرمه.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المرفوع: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»، وهذا يدل على أن من لم يغتنم الأولى خسر الثانية فمن لم يغتنم الحياة خسر الموت ومن لم يغتنم الشباب خسر الهرم.
7- ومنها محاسبة النفس لتزكو وتعود إلى فطرتها وتتطهر من الآثام وتكون قدوة للأنام فإن الله تعالى مدح أهل المحاسبة فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى.
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات40-41]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
وقال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم...
"، وفي الأثر: "الكيّس من دان نفسه"، فيحاسبها لماذا تركت أمر الله إذ ليس لها خيار فيه، بل يجب امتثاله ويحاسبها لماذا وقعت في نهي الله إذ هي ملزمة بتركة، ويحاسبها لماذا أطاعت الشيطان وهو عدو لها ويقودها إلى الهلاك، ولماذا اتبعت الهوى فضلت عن سبيل الله، ولماذا اتبعت الشهوات التي تقودها إلى النار، ولماذا تركت الإستقامة ورضيت الإنحراف، ويحاسبها على كلامها هل هو من الخير وتسكت، ويحاسبها على نظرها هل هو في الطاعات أو الغضب، ويحاسبها على سمعها هل هو للحسنات أو الأعراض، وعلى علمها هل هو لله أم للدنيا، وعن مالها من أين اكتسبته، وفيما أنفقته، ويحاسبها على أيامها الماضية كم للطاعة وكم للمعصية، وكم للمباحات.
فلو كان النوم يومياً ثمان ساعات فثلث العام للنوم أي أربعة أشهر ولو كان للطعام والشراب والنزهة والأصدقاء والعمل ثمان ساعات لذهب ثلث العام الآخر ولو كان للعين والسمع واللسان واليد والقدم أربع ساعات لذهب سدس العام فلم يبق إلاّ سدس واحد لأي شيء هو هل للطاعة فقط أم للطاعة وغيرها إنها خسارة عظيمة ووقت يهدر بلا حساب، يروى عن توبة بن الصمة أنه حسب أيام حياته فوجدها تزيد على ستين سنة وأيامها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فقال لو أذنبت كل يوم ذنباً واحداً ألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب، ثم سقط مغشياً عليه، وقالوا لعامر التميمي اجلس معنا قال امسكوا الشمس لا تتحرك أكلمكم، أما ذهاب العمر فيما لا فائدة فيه فلا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله ومن الدروس والعبر التي نودع بها هذا العام.
8- النظر في ميزانية الأيام إذ ميزانية الوقت من العام الماضي ما يزيد على خمسمائة ألف دقيقة، ويزيد على ثمانية آلاف وخمسمائة ساعة ويزيد على (354) يوم، ويزيد على خمسين أسبوعاً وحوالي اثنا عشر شهراً، وهذا كم هائل من الزمن يجب الاستفادة منه وعدم تضييعه، والإنسان يندم على ضياع الوقت في موضعين: عند الموت قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
وعند الحساب لقول الله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر من الآية:37].
9- ومنها النظر في ميزانية الأعمال من ذكر وصلاة وصيام وصدقة وقراءة قرآن ودعوة ونحوها فميزانية الذكر مائة تهليلة ليكون ثوابها في العام (354) ألف؛ ومائة استغفار فيكون ثوابها (354) ألف وخمسمائة تسبيحة وتحميدة وتكبيرة وتهليلة بعد كل صلاة ليكون ثوابها (1.
770.
000) حسنة والمواظبة على قراءة آية الكرسي كل يوم ست مرات مرة عند النوم وخمس بعد الصلوات الخمس والمواظبة على قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]؛ كل يوم اثنتا عشرة مرة لكل سورة ثلاث مرات بعد الفجر والمغرب، ومرة بعد الظهر والعصر والعشاء، وثلاث عند النوم، وله بكل حرف عشر حسنات فيزيد ثوابه على (8.
850.
000) وميزانية الصلوات ألف وسبعمائة وسبعين في الفعل و17700 صلاة في الأجر، ولوالي المسجد مائة خطوة فثوابها 177000 حسنة ويغفر لها مثلها سيئة ويرفع له مثلها درجة ويُعد له 1770 نزل كلما غدا ومثله كلما رجع، وله بصلاة الجماعة (477050) درجة وإذا صلى الرواتب ظفر (4248) ركعة بمعدل ثنتا عشرة ركعة يومياً وله بها (8498) درجة ويبني له قصر في الجنة ويحظى بمحبة الله تعالى وله بكل ركعة يزيدها درجتين في الجنة ولو قرأ القرآن في كل شهر مرة كان أجره 3.
407.
400 وفي العام 40.
888.
800.
وميزانية الصدقة لو تصدق كل يوم بريال واحد كان له به عند الله 700 حسنة ويحظى 247.
800 وكلما زاد زاد الله ثوابه وميزانية الصوم رمضان بعشرة أشهر وستة أيام من شوال بشهرين وثلاثة أيام من كل شهر بصيام الشهر وعرفة بسنتين وعاشورا بسنة وهذا فضل الله فهل نتذكر مثل هذا الأجر ونزداد من الخير ونثبت على العمل الصالح ونداوم عليه.